ابتعدت عنها قليلاً، لم أشأ جدالها رغم احتياجي لتلك الروح المرحة التي تدخل السعادة إلى قلوبنا ببساطتها. ومهما كان أحدنا وقوراً بطبعه فهو بحاجة إلى تلك الروح الجميلة؛ ولكنّ طاقتي لم تهوَ أي مزاحٍ آنذاك، ولذا فقد اخترت الابتعاد أو كما يسمى سموُّ الصمت.
كثير منا يهوى سمو الصمت بدلاً من الجدال الذي لا جدوى لنا منه، ونشعر أحياناً وكأنّ لنا «سوفت وير» مختلف نستطيع من خلاله أن نعمل إعادة تشغيل متى نشاء، وإن لزم الأمرُ «إطفاء» وإن كنّا بحاجة لتلك الروح الجميلة، أو بالأحرى بحاجة للخروج من ذاك الإطار المُمل الذي يجعلنا نرى العالم بأسره وكأنه صور متحركة أمامنا، نراها ولا نسمع صوتها. والغريب في الأمر أن ضجيجها يصل إلى مسامعنا، فالقلوب لا تكذب، وكأنّ بيننا وبين أقوالها حجاباً. كلمات وجمل غير مفهومة! نهرع من تلك التفاهات إلى عزلة جميلة نحتاج إليها من حين إلى آخر، تلك العزلة التي أحب أن أسميها عزلة «سمو القلب ورفعة العقل»، وقد عبّر عنها كثير من الفلاسفة وأهمهم من وجهة نظري الفيلسوف والكاتب والشاعر والناقد والمحرر الأمريكي إدغار آلان بو، حيث قال: «من سوء الحظ الشديد أن يفقد المرء قدرته على البقاء وحده ومع نفسه، وأن يقحم في الحشود، وأن يتنازل عن خصوصيته الفردية لصالح المطابَـقة قليلةِ التفكير مع الجماعة».. كلماتٌ جميلة ومُعبِّرة».
هكذا كنتُ في لحظةٍ ما!
كنتُ أنظر إليها وهي تصرخ بصوت عالٍ مع تراقص شفتها من بعيدٍ كراقصة باليه على سطح مسرحٍ مظلم يُسمع لجدرانه أنينٌ ولخشبته ضحكات، لا تنسى. كل ذلك كان يتمثل في تلك التجاعيد التي رسمت على ذلك الوجه البريء. بادلتها ابتسامةً مماثلة وأنا ألوح لها بيدي؛ وضعت معطفي على رأسي وأنا في هرولة تنجيني من تلك الأمطار الفجائية التي أبحرت بسيوفها، وكأنه حصار بحري أو عملية عسكرية تسعى لسد جميع المنافذ البحرية، وموانئها العسكرية، تسعى لتطويق عيني وتشدد الحصار عليهما حتى تمتزجا بخيوطها، ويصعب عليهما تحديد كنهها وجوهرها! أهي بقايا دمعٍ متمرد أم قطراتُ أمطارٍ عاشقةٍ احتضنها جفناي؟! أخذتُ نفساً، وما تزال خطوط وجهي تعانق ذراتها.
وفي تلك الأثناء يتسلَّل إلى مسمعي صوت العجوز: «لا يمكنك أن تسْرد لي بدايتها وتُشوِّقني، وتذهب عني هكذا: انتظر أيها المزعج»! كنتُ أمشي بخطوات سريعة إلى الوراء بعدما أبعدتني بصوتها عن أجمل غزوٍ يمكنك أن تتخيله: «انتظري، ما زالت تداعب خيالي».
دخلت عالمي المنير المظلم في آنٍ واحد، بعد أن وضعت معطفي جانباً على يمين تلك الشمعة التي كانت على وشك أن تضحي بنفسها كما يقول الكاتب الياباني هاروكي موراكامي: «أشعرُ بخيبةِ شمعة ضحّت بنفسها لتُضيءَ غرفة أعمى».
ومن أعلى تلك الشرفة وعلى ذلك الكرسي المهجور المطل على شرفة المبنى العتيق، حاولتُ أن أسترجع عالمي المنير، وأشعل شمعتي التي كادت تنتهي أمامي وأُعيد ترتيب أوراقي.
هذه هي عزلتي بين كتب جعلها الزمن تكاد تندثر وتنسى في رفوف مغبرّة تخضّبت أوراقها وصفحاتها، وما زال لكلماتها صوتٌ لا يمكنك تجاهله؛ ألحانٌ لا يمكنك نسيانُها وكأنك تسمع أصواتَ قرونٍ مضت تحمل سلسلةً من الإمبراطوريات، وعدداً من العباقرة لهم مخزون من الخبرات والتجارب الحياتية لا يمكننا نسيانها أو تجاوزها، وما علينا إلا أنْ نتعلم منها، ونأخذ منها العِبر..
هنا يكمُن «سمو القلب ورفعة العقل».