في الفترة الطويلة التي تلت توقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في سنة 1979 ثم معاهدة السلام مع الأردن في سنة 1994 وقبلها اتفاقية أوسلو الأولى في سنة 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، ظلت النخب الحاكمة في إسرائيل بمختلف أحزابها وتحالفاتها المتنوعة، تعيش ضمن حالة سياسية اتسمت بعدة خصائص حكمت سلوكها تجاه الفلسطينيين وأراضيهم ومجمل علاقات إسرائيل بالمنطقة ودولها وبالعالم وكتله الأساسية.
وأتت هجمات السابع من أكتوبر من سنة 2023 وبعدها الحرب الإسرائيلية الدموية المتواصلة على قطاع غزة منذ سبعة أشهر، لكي تغير جذرياً من المعطيات السياسية الإسرائيلية الداخلية، ما يطرح سؤالاً جوهرياً عن مدى قدرة النخبة الإسرائيلية الحالية على التعامل مع معطياتها الجديدة في المديين القصير والمتوسط.
وكانت أبرز خصائص المرحلة السابقة على السابع من أكتوبر، أن إسرائيل قد استطاعت بمختلف الوسائل العسكرية والسياسية والمناورات المتعددة، أن تضع قضية الدولة الفلسطينية والانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة بعد يونيو من سنة 1967، في حالة تجميد فعلي، وأن تستطيع الحكومات اليمينية المتعاقبة، وخصوصاً التي رأسها بنيامين نتانياهو، الخروج من تحدي الانتفاضة الأولى والثانية ومن كل المواجهات العسكرية المتعاقبة مع قطاع غزة، من دون أي أثمان سياسية تذكر على صعيد حل القضية الفلسطينية.
وأمعنت النخبة الحاكمة الإسرائيلية في إيقاف أي تطور إيجابي نحو حل هذه القضية، ومن ذلك التحطيم المنظم لكل الأسس التي قامت عليها اتفاقيات أوسلو، وبالترافق مع توسع غير مسبوق في الاستيطان والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.
وانطلاقاً من هذه الأوضاع، عدلت النخبة الإسرائيلية الحاكمة من أولوياتها، لتتجاوز أي حل للقضية الفلسطينية، إلى السعي الحثيث للاندماج في المنطقة العربية عبر محاولات إقامة علاقات سياسية واقتصادية وتجارية طبيعية مع دولها.
ومن الجلي لكل مراقب للأوضاع الجديدة التي طرأت على بنية المجتمع الإسرائيلي الداخلية، وما بات يجتاحه من مخاوف «وجودية» غير مسبوقة، والتغيرات الجوهرية التي طرأت على صورة إسرائيل ومكانتها الدولية، والدفع الدولي غير المسبوق نحو حل الدولتين باحتسابه المخرج الوحيد والنهائي من الصراع في المنطقة، أن النخبة الاستراتيجية التي تحكم إسرائيل طوال العقود الأربعة الماضية، لن تكون قادرة – ولا راغبة على الأرجح – على التعامل مع هذه المتغيرات الجوهرية الجديدة.
من هنا، فإن أي توقع لسعي إسرائيلي للاستجابة لهذه المتغيرات، بما يفضي إلى قرارات مصيرية بالنسبة للدولة الإسرائيلية، لا بد من أن يرتبط بتوقع آخر بضرورة حدوث تغيرات جوهرية في تكوين وتفكير النخبة الاستراتيجية الإسرائيلية وخصوصاً الحاكمة، والأرجح أن هذه التغيرات التي تدور في قبول فكرة «الاستقلال الفلسطيني» في دولة ذات سيادة مجاورة لإسرائيل، مع التوقف التام عن التوسع الاستيطاني، بعد حل القائم منه حالياً ضمن تسوية شاملة، ستتطلب تغييرات قاسية وجذرية في الوعي الإسرائيلي العام، مع إدراك جديد وراسخ لدى هذه النخبة الإسرائيلية المشار إليها، يمكنها من اتخاذ القرارات التي لم تتخذ من قبل بما يصنع تاريخاً آخر للدولة العبرية.
وليس هناك من يقين ولا حتى ترجيح بحدوث هذا السيناريو، ولكن المؤكد أن إنهاء الصراع في المنطقة وفي قلبه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، لا يمكن أن يتم من دون التغييرات المشار إليها في وعي وسلوك النخبة الإستراتيجية الإسرائيلية ومعها الوعي الإسرائيلي العام.
وبطبيعة هذه التغيرات الجذرية، فهي لن تتم في زمن قصير، ومن الوارد أيضاً ألا تتم بما يكفي على الإطلاق، وهو ما يفتح الأبواب أمام كل السيناريوهات في المديين القصير والمتوسط، ومنها عدم اكتمال هذه التغيرات، بل أن يحدث عكسها تماماً، فتتجه إسرائيل – مجتمعاً ونخبة – إلى مزيد من التطرف الديني والسياسي، بما يدفع الأوضاع في فلسطين والمنطقة كلها إلى آفاق غير مسبوقة من الصراعات والحروب.