يبدو واضحاً أن حكومة تحالف اليمين المتطرف والديني التلمودي الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتانياهو تغرق وتفرط يوماً بعد آخر في رج وتقويض علاقات بلادها المستقرة تاريخياً أو منذ زمن طويل، مع عدد كبير من دول العالم.
والمثال الأبرز وغير المتكرر منذ قيام الدولة العبرية، هو التوترات العلنية غير المعهودة مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، على الرغم بالطبع من بقاء الدعم الاستراتيجي الأمريكي لإسرائيل قائماً وبقوة، وهو ما يعطي إشارات واضحة على احتمالات تراكم تغيرات فعلية وقد تصل إلى الجوهرية في علاقات البلدين في المديين المتوسط والبعيد.
ويظهر التآكل المتسارع والمتصاعد للعلاقات التقليدية الإسرائيلية – الأوروبية، ليؤكد على «حمق» السياسة الإسرائيلية، منبئاً عن تغيرات كبيرة وقد تكون جوهرية في هذه العلاقات، توشك على التشكل والتجلي في المديين القصير والمتوسط.
والمؤكد وراء كل هذه التغيرات شديدة السلبية في العلاقات الإسرائيلية مع الولايات المتحدة ودول أوروبا، هو الاختراقات الكثيفة وغير المنتهية من الجيش الإسرائيلي في عدوانه الدموي على قطاع غزة، لقواعد القانونين الدولي والإنساني، والتي وصلت لحد جرائمهما الكبرى، كالإبادة والتطهير العرقي ومختلف أنواع جرائم الحرب الأخرى، والتي وضعت حكومات كل هذه الدول في حرج شديد أمام شعوبها وتجاه التزاماتها الدولية.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد أفاضت في صبرها تجاه هذه الاختراقات، وهو ما بدا متوقعاً ومنطقياً بالنظر لخصوصية علاقات واشنطن وتل أبيب، فإن إدارتها لم تحتمل الصمت بعد تراكم جرائم الجيش الإسرائيلي وخصوصاً المرتكبة بأسلحة أمريكية، وأتى الإصرار الإسرائيلي على اجتياح رفح ليهز كل قدرة أمريكية على مواصلة الصمت الذي بدا للعالم متواطئاً.
وكان التطور الأكبر والأبرز في إفراط حكومة نتانياهو في تقويض علاقة دولته بالعالم الخارجي، هو المتعلق بعلاقاتها مع مصر. فمعاهدة السلام عام 1979 مع مصر، الدولة العربية الأكبر والأكثر حروباً مع إسرائيل، كانت هي حجر الزاوية في بناء العلاقات الإسرائيلية مع دول المنطقة العربية خلال العقود الأربعة الأخيرة.
وبغض النظر عن كل الاعتداءات الإسرائيلية التي وقعت خلال هذه الفترة، سواء على لبنان أو على غزة أو على الضفة الغربية، والتي أدت لاحتجاجات علنية وحادة من مصر وسحبها مرتين سفيرها في تل أبيب، فقد ظلت «حالة السلام» سائدة في المنطقة كلها، لتبني عليها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة طموحاتها وتحركاتها للاندماج في المنطقة وبناء علاقات «طبيعية» مع مختلف دولها.
بالرغم من كل هذا، فقد بدا واضحاً منذ بدء الأزمة والعدوان الإسرائيلي الدموي، أن حكومة نتنياهو لم تقدر أبداً بصورة صحيحة طبيعة رد الفعل المصري عليه، ولا مدى تمسك القاهرة بكل المبادئ والثوابت التي بنيت عليها رؤية مصر ومواقفها من القضية الفلسطينية قبل ثلاثة أرباع القرن، ولا درجة الحرص المصري البالغ على مقدرات الأمن القومي للبلاد وسيادتها على كل شبر من أراضيها.
وتفننت الحكومة الإسرائيلية برئيسها وعديد من أعضائها طوال شهور الحرب في استفزاز الجانب المصري، سواء باتهامات مباشرة باطلة ومزعومة، أو بتحركاتها العسكرية الغاشمة والحمقاء والدموية بداخل قطاع غزة، وأحياناً على بعد خطوات من الأراضي المصرية.
وحاولت القاهرة طوال الوقت لفت انتباه حكومة تل أبيب، سواء باتصالات مباشرة أو عبر الدول الصديقة، أو بتصريحات إعلامية شديدة الوضوح، إلى خطورة ما يقوم به جيشها في غزة وما يمكن أن يترتب عليه من توسيع دائرة الصراع في المنطقة، ومساس تحركاته بالمصالح الاستراتيجية المصرية، والالتزامات التعاقدية بين البلدين.
وكان الدخول الإسرائيلي الحالي لمنطقة رفح وإفشال رئيس حكومتها المتعمد لجهود الوساطة المصرية بشراكة قطرية وأمريكية، لعقد اتفاق لوقف إطلاق النار بناء على مقترح مصري مفصل، هو الحلقة الأخيرة في مسلسل تقويض إسرائيل لأهم علاقاتها الإقليمية، أي علاقاتها مع مصر.
من هنا، فلم يكن مفاجئاً لكثيرين ما أعلنته مصر قبل يومين من «اعتزامها التدخل رسمياً لدعم الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية للنظر في انتهاكات إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة». لقد بعثت مصر عديداً من الرسائل، وهذه هي آخرها، فهل تحسن حكومة نتانياهو قراءة معانيها؟