المثقف والمعرفة

تعددت تعريفات المثقف، وتبعاً لهذا تنوعت المصطلحات والآراء، التي دارت حول هذه المفردة، وفي مختلف الحضارات كان للنخبة المثقفة آراؤها التنويرية ومنجزاتها العلمية التي أثرت تلك الحضارات، لذا ليس المجال هنا لوضع تعريف جديد للمثقف والثقافة، ولا نهدف لاجترار تعريفات سبق طرحها والتعاطي معها، لأن موضوعنا اليوم وإن كان يتقاطع مع الهم الثقافي وحالة المثقف، إلا أنه بعيد عن التنظير العلمي للمصطلحات والمدارس المختلفة، بمعنى أننا هنا نستلهم طرح القضية مجردة دون تلبيسها ثوب الهالة العلمية وقداستها النخبوية، بل هنا نجعلها مشاعة للجميع دون استثناء.

هذا الهم متواصل مع المثقف، وله تنوع وله طموح أيضاً، وإذا لم تصدقوا ما أقول فما التفسير المقنع لشعور نخب ثقافية واسعة وألمها الذي اتضح في كتبهم ومقالاتهم ومنجزاتهم العلمية وهم يتحدثون عن قصور في النشر والاهتمام والرعاية، فضلاً عن تعثر في الترجمة ونقل المنجزات والمعارف العربية لأمم الأرض المختلفة؟ بمعنى كيف لمثل هذا الموضوع أن يصبح ذا مساحة واسعة من تفكير واهتمام مختلف الشرائح الثقافية ليس في مجتمع عربي واحد وحسب، وإنما على امتداد عالمنا العربي؟ لعل الإجابة توضح جانباً من دور المثقف وتطلعاته ورغباته، فهو شديد الاهتمام بما ينشر وما يكتبه للآخرين، لذا دون الشعور بالانتشار، وأن صوته وصل لأبعد نقطة ممكنة، فهو يظل مسكوناً بشعور التقصير الذي يدفع به دوماً للتذمر والحزن.

ومعضلة الوصول للآخر من أمم الأرض لها أسس وواجبات، وحتمية التأكد من وجود القواعد التي يمكن البناء عليها للانطلاق للآخر، فما الجدوى للتطلع نحو الآخر البعيد وأنت لم تغمر من هو قريب منك بمنجزك المعرفي ولم تغذيه وتقنعه بهذا المنجز؟ للراحل الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود، كلمات جميلة تقترب من هذا الطرح، جاءت في كتابه الذي يحمل عنوان: «هموم المثقفين» الصادر عن دار الشروق، والذي قال فيه: «لقد كنا نقول إنه مما يثبط همة المثقفين في بلادنا، أن نتاجهم الجيد أحياناً، لا يجد سبيله إلى ترجمة تنقله إلى اللغات الأخرى، مما يترك هؤلاء المثقفين في عزلة كأنهم يحدثون بعضهم بعضاً، وسائر العالم لا يسمع من حديثهم حرفاً، كنا نقول ذلك، وكان الأوجب علينا أن نطمئن أولاً إلى أن المؤلف العربي مقروء في موطنه، ودع عنك أن يكون مقروءاً في بقية أجزاء الوطن العربي، حتى إذا ما تحقق له ذلك، فربما سهلة أمامه الطريق إلى دنيا اللغات الأخرى».

أعود للتأكيد أننا هنا نتحدث عن معضلة واحدة أو اثنتين تحيط بهذا المثقف، ففضلاً عن معارفه التي تؤذيه وتجلب له الحزن وشقاءه بهذه المعرفة، فهو يرى أمامه أن أحلام الانتشار ووصول منجزاته للآخر تتهاوى في ساحة محيطه الاجتماعي غير القارئ، وأيضاً هو يحبط نتيجة لفشله في الوصول للأمم الأخرى، وبالتالي فإن معاناة المثقف آلام نفسية داخلية، وحزن وهم خارجي، ولعلي من هذه النقطة أنطلق نحو الدلالة لموضوع يتعلق بما يقدم للساحة العربية من منجزات أدبية سوداوية أو غارقة في السوداوية، لأعتبرها نتاجاً لمثل هذه الحالة المتأزمة داخل نفس المثقف، فالنار إذا صح التعبير، تتلظى داخل وجدانه، إما بسبب هذين العاملين، أو بسبب الحالة العربية التي تعيشها الكثير من مجتمعاتنا، فهذه الحالة أردنا أو لم نرد لها انعكاس سلبي على نظرة المثقف، ومن ثم على واقعيته، بؤس المثقف الحاضر الماثل الواضح في كثير من جوانب حياته، فضلاً عن تدهور ثقافي في محيطه وتراجع معرفي في مجتمعه، جميعها تجعله كأنه وحيد على ساحة تعصف فيها الرياح الباردة أو تلك المحملة بالأتربة المؤذية، وفي كلتا الحالتين، ما الذي نتوقعه من هذا الإنسان المثقف؟ سوى منجز غارق في السوداوية في نهاية المطاف، منجز يجدف ضد السعادة، ضد الأمل، ضد التفاؤل.

ولجمع المثقفين، أقول خففوا الهم وتفاؤل، وقدموا ما بوسعكم لإنارة الطريق لمجتمعاتكم، وتذكروا مقولة العالم والفيلسوف والفيزيائي الشهير جاليليو جاليلي، والتي قال فيها: «لا يمكنك تعليم أحد أي شيء، بل فقط مساعدته على العثور على المعرفة داخل نفسه».

الأكثر مشاركة