اكتشافات قديمة نفسد قيمتها

هناك عادات كثيرة للإنسان توارثتها الأجيال، سواء في الملبس أو المشرب أو الغذاء، وحتى السكن والزينة والعطور، إلا أن الإنسان لم يصل لهذه الاحتياجات مباشرة، بل مر بسلسلة من التطوير والفهم حتى اقتنع بوظيفة أخرى لها. يقال إن الإنسان بدأ في استخدام الطبيعة ومخرجاتها لخدمته منذ أقدم العصور، وتحديداً منذ ذلك التاريخ الذي بدأ فيه بأخذ أغصان الأشجار وتحويلها لملابس يرتديها، وتبعاً لهذه الحالة فإن كثيراً من عادات الإنسان بدأت لسد حاجاته الأساسية للبقاء، أو لتساعده على العيش والتغلب على ظروف الحياة القاسية، سواء كانت ظروفاً مناخية أم طبيعية، أو تساعده حتى لإيجاد طعامه.

على سبيل المثال، ولتقريب الفكرة التي أود مناقشتها، كُحل العيون، الذي يقال إنه بدأ مع الإنسان أو اكتشفه الإنسان، وكان هدفه من تكحيل العينين هو مساعدته في التغلب على ظروف الشمس الملتهبة، ولتقوية العين وحمايتها من الأتربة والسموم، وغيرها من الاحتياجات، ويقال إن تاريخ الكحل يعود إلى العصر البرونزي؛ أي نحو عام 3500 قبل الميلاد، ويكاد هذا التاريخ يكون منطقياً؛ لأننا نجد في كل حضارة ذكراً للكحل، فقد استخدمه الفراعنة وغيرهم من الأمم والحضارات.

وكما قلنا لم تكن بدايته تجميلية، وإنما كانت الحاجة لحماية العين من الشمس وبعض العوامل الطبيعية، ولم يكن حكراً على النساء، بل حتى الرجال كانوا يكتحلون، ولعل خير دليل على أهميته لحماية العين أن البقع التي كان ينتشر فيها هي الصحاري وفي المناطق الحارة، ليس هذا وحسب، إنما هناك أسطورة أيضاً أو خرافة انتشرت في ذلك الزمن حول الكحل، وهو أنه يطرد الأرواح الشريرة كالجن، وأيضاً أنه يحمي من العين الشريرة الحاسدة، عموماً تلاشت مثل هذه النظرة، وذهبت كل هذه الخرافات إلى كتب التاريخ، وبقيت حقيقة أن هذه المادة السوداء التي باتت في العصر الحديث بغرض الزينة تقوي البصر وتحمي العين.

عند الحديث عن الكحل لا يمكن أن نتجاوز ما ورد في تراثنا العربي القديم من قصة زرقاء اليمامة، التي كان يقال إنها ترى لمسافة مسيرة ثلاثة أيام من حدة وقوة بصرها، وإنها في يوم نبهت قومها من غزو قادم عليهم، فكذبوها ولم يعيروا تحذيراتها أي اهتمام، فلم يمضِ إلا وقت يسير حتى هجمت قبيلة أخرى عليهم وقتلت منهم كثيراً، فأحضرت اليمامة ابنة مرة، وأمر بها ففُقئت عيناها، فإذا فيها عروق سود، فقيل لها: ما هذا السواد في عروق عينيك؟ فقالت: حُجير أسود يقال له الإثمد كنت أكتحل به. وقد نقل لنا بعض شعراء العرب هذه القصة التي حفظها التاريخ حتى اليوم، ومن هذه الأشعار ما قاله الأعشى:
كونى كمثل الذي إذ غاب وافدها .. أهدت له من بعيد نظرة جذعا .. ما نظرت ذات أشفار كنظرتها، قالت أرى رجلاً في كفه كتف، أو يخصف النعل لهفى أية صنعا .. فكذبوها بما قالت فصبحهم - ذو آل حسان يزجي الموت والشرعا .. فاستنزلوا أهل جو من مساكنهم - وهدموا شاخص البنيان فاتضعا
هذا هو كحل العيون قديماً، أما في العصر الحديث فقد حذرت دراسة من أن الكحل يضر بعيون النساء ويؤذي البصر، وخصوصاً تلك الأنواع الشائعة في المنطقة العربية والخليجية؛ لاحتوائها على نسبة كبيرة من الرصاص، حيث وجد الأطباء في مستشفى الملك فيصل التخصصي بعد تحليل عينات عشوائية من الكحل الذي يباع عند العطار والمتوفر في الأسواق، وخاصة الأنواع الهندية، أن نسبة الرصاص فيها تتراوح بين 85 و100 في كل غرام من الكحل، وأن هذه النسبة المرتفعة من الرصاص كفيلة بإتلاف العيون والعظام والكبد، وقد يسبب التخلف العقلي للأطفال، ولم أتحدث عن الكحل الصناعي.. عموماً أيدينا باتت تمتد لكل جميل وتتلفه من أجل تحقيق مكاسب مادية لا أكثر.

الأكثر مشاركة