في خمسينيات القرن العشرين، حينما كانت الكويت تتلمس طريقها نحو البناء والتنمية والنهضة بعد تدفق النفط من أراضيها وتصديره، كان خروج المرأة الكويتية من منزلها للعمل في غير سلك تعليم الإناث أمراً مستهجناً اجتماعياً، وتحيط به الكثير من المحاذير، فما بالك لو كان عملها في مكان خارج العاصمة على بعد نحو 40 كيلومتراً، ووسط طواقم أجنبية غير مسلمة، غير أن فتاة كويتية من أسرة عربية عريقة ذات مكانة وسمعة طيبة قررت في العام 1958 أن تكسر العادات والتقاليد السائدة وتخرج من بيتها للعمل بشركة نفط الكويت في مقرها بميناء الأحمدي وسط موظفين وخبراء ومهندسين أغلبيتهم العظمى من الإنجليز.

هذه الفتاة هي السيدة «شريفة بنت عبدالوهاب بن عيسى بن ناصر بن عبدالعزيز القطامي»، التي حفرت اسمها في سجل الكويتيات الأوائل، والتي ستكون محور حديثنا في هذه المادة كونها أول فتاة كويتية جازفت باقتحام ميدان العمل دون خوف أو وجل، ففتحت بذلك الأبواب أمام بنات جنسها، للمساهمة في خدمة وطنهن جنباً إلى جنب مع الرجل حتى زادت نسبة مشاركتهن في مختلف الأعمال والمهن تدريجياً من 1.4 في المئة في عام 1957 (كانت كلها في مجال تعليم البنات) إلى 12.8 في المئة في عام 1980، فإلى 14 في المئة في عام 1993، فإلى تسجيلهن ثاني أعلى نسبة مشاركة في القوة العاملة بين دول مجلس التعاون الخليجي بعد البحرين في حدود 50.2 في المائة، طبقاً لدراسة أصدرها مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية في مايو 2023.

لم يكن هذا غريباً على فتاة تنتسب إلى عائلة القطامي الكويتية التي خرجت منها شخصيات كثيرة تعتبر من الأوائل في مجالها، فعلاوة على شريفة، كانت أختها لولوة الملقبة بـ«بنت النوخذة» أول فتاة كويتية تكسر التقاليد والأعراف حينذاك، وتذهب إلى أقاصي الغرب في عام 1952 لإكمال تعليمها الجامعي بمدينة أدنبره الأسكتلندية لتصبح أول كويتية تتخرج من بريطانيا وأول معلمة كويتية تقوم بتدريس الإنجليزية والفرنسية لطالبات المرحلة الثانوية سنة 1960، وأول وكيلة مدرسة ثانوية في عام 1963، ورئيسة أول بعثة طالبات تخرج من الكويت لزيارة البلاد العربية، وأول مديرة لكلية البنات في جامعة الكويت في 1975، ناهيك عن مساهماتها المشهودة في تأسيس جمعية المعلمين الكويتية في سنة 1966، وعملها أمينة عامة للجنة تنسيق العمل النسائي في الخليج والجزيرة العربية، وأمينة مساعدة للشؤون الداخلية في الاتحاد النسائي العربي العام، وعضوة في مؤتمر المناهج المدرسية في 1972، وعضوة في اللجنة العليا لمشروع دور الحضانة النموذجية بجامعة الكويت وصاحبة فكرته في 1979، وعضوة في اللجنة العليا لمحو الأمية ما بين عامي 1974 و1988، وعضوة في المجلس الاستشاري للإعلام في الكويت منذ 1983، ومؤسسة للمجلس العربي للطفولة والتنمية في 1987.

أبصرت شريفة القطامي النور في عام 1937 بمنطقة الوسط من العاصمة الكويت، قبل انتقال أسرتها إلى منطقة الشرق، ابنة لعائلة القطامي، التي يعود نسبها إلى آل زايد من الدهامشة من عنزة، ولها مصاهرات كثيرة مع أبرز العائلات الكويتية المعروفة مثل: الغانم، الحميضي، البرجس، الفرج، الشايع (الشامية)، الصالح (النزهة)، البحر (الضاحية)، الفارس، الرومي، السنان، البشر، الفليج (الضاحية)، العصيمي، الوزان (الفيحاء)، الحمد (الشامية)، العبدالرزاق، الشلفان، الرزوقي، والرفاعي.

جد عائلتها، التي هاجرت من موطنها الأصلي في نجد في بدايات القرن الثامن عشر، وانتشرت في الكويت والبحرين وقطر، هو عبدالوهاب (بن قطامي) بن عبدالعزيز بن غانم بن عبدالله بن إبراهيم بن محمد بن غانم بن جبر بن علي آل زايد وهو من العتوب.

وفي الكويت، التي تعتبر فيها أسرة القطامي واحدة من أقدم عائلاتها، برزت منها شخصيات عديدة منها: «محمد عبدالعزيز القطامي»، الذي كان أول من تولى قيادة قوة خفر السواحل في الكويت في عام 1938، و«عبدالله يوسف القطامي»، الذي تولى حقيبة الأشغال العامة في الوزارة التي شكلها حينذاك الشيخ سعد العبدالله الصباح في عام 1991، والتي لم تدم سوى عام ونصف العام، و«جاسم عبدالعزيز عبدالوهاب القطامي» وكان سفيراً سابقاً بوزارة الخارجية ونائباً في مجلس الأمة لعدة دورات وعضواً في المجلس التأسيسي سنة 1963 وأول مدير لشرطة الكويت من 1954 حتى استقالته في 1956، وأول رئيس لمجلس إدارة الاتحاد الكويتي لكرة القدم من 1957 إلى 1961، والنوخذه ناصر بن عبدالوهاب بن عبدالعزيز القطامي، عضو غرفة التجارة وعضو لجنة تنقيح الدستور سنة 1980.

اشتهر أبناء عائلتها بالعمل البحري، فأعطوا الكويت أشهر وأكبر نواخذتها من الذين كانوا في زمن ما قبل النفط دعامة اقتصاد البلاد وجالبي ما تحتاجه من مؤن وبضائع من بلدان الخليج والهند وشرق أفريقيا، فخلدت أسماؤهم في كتب التاريخ، ومنهم عمها «يوسف عيسى القطامي»، الذي يعتبر من أمهر النواخذة والربابنة الكويتيين، وأول من وصل منهم إلى ميناء بورسودان على البحر الأحمر.

جد شريفة المباشر هو نوخذة الكويت الأشهر «عيسى عبدالوهاب بن ناصر بن عبدالعزيز بن عبدالوهاب القطامي» الملقب بـ«ملاح الكويت الأول»، والذي كان شاعراً وأديباً ومؤلفاً بالرغم من عدم حصوله على أي شهادات، بدليل قيامه بتأليف كتاب «دليل المحتار في علم البحار» عن المسالك البحرية للسفن الشراعية إلى الهند واليمن وشرق أفريقيا وكتاب «عمان والجبل الأخضر»، الذي تطرق فيه بشمولية إلى تاريخ منطقة الخليج السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وكتاب «أزهريات» في النقد الاجتماعي وكتاب «أوزان اللؤلؤ» وكتاب «المختصر الخاص للمسافر والطواش والغواص»، وكان خارق الذكاء يسافر بحراً في صغره مع خاله إبراهيم الغانم إلى الهند، وهو أحد الذين أساء الإنجليز معاملتهم في عشرينيات القرن الماضي فغادر بلاده غاضباً إلى أبوظبي، حيث عاش لمدة عامين ثم انتقل منها إلى سلطنة عمان، التي عاش فيها على مدى أربع سنوات إلى أن مات ودفن بها في الجبل الأخضر في سنة 1929.

والدها هو النوخذة عبدالوهاب بن عيسى القطامي (1898 ــ 1967) الذي تزوج من والدتها «آمنة بنت عبدالعزيز القطامي» كعادة رجالات زمنه في الاقتران بقريباتهم، ودرس في كتاتيب الكويت القديمة، وخاض صبياً تجربة السفر إلى الهند مع والده، فتفتحت مداركه وزادت ثقافته وأصبح رئيساً لبلدية الكويت في عام 1938، وحاز في يوليو من عام 1938 شهادة الملاحة من الأسطول البريطاني تكريماً له بسبب حنكته ومهارته في الملاحة البحرية بمناسبة اعتزاله الأسفار في ذلك العام، واستقر لاحقاً في الزبير والبصرة مزاولاً فيهما تجارة التمور لمدة عقدين من الزمن، إلى أن عاد إلى الكويت وتوفي على ترابها سنة 1967، بسبب مرض عضال لازمه لمدة أربع سنوات، وكان النوخذة عبدالوهاب أحد الذين استعانت بهم حكومة الكويت لتحديد الجرف القاري في مياه الخليج العربي.

عرف عن والدها عبدالوهاب القطامي حبه للثقافة والقراءة، ناهيك عن تميزه عن مجايليه بالانفتاح والفكر التنويري، ولئن كان أحد أسباب ذلك هو قراءاته المتنوعة، فإن السبب الآخر هو مهنته كربان (نوخذة) يطوف بسفينته موانئ الهند والسند، وغيرها من البلاد البعيدة المليئة بالغرائب والمعارف والثقافات المختلفة، ويتعامل مع تجار متنوعين في فكرهم وثقافاتهم، الأمر الذي أسهم في زيادة وعيه بأهمية التعليم وأثره في تقدم الشعوب ورقيها، واقتناعه بأن التعليم هو ذخيرة المرء وسنده في مواجهة مصاعب الحياة وتحدياتها.

وآية ذلك أنه أدخل بناته المدرسة بمجرد أن افتتحت مدرسة نظامية للبنات في الكويت في عام 1937، ثم ألحقهن بمدرسة فرنسية وتبشيرية في البصرة حينما انتقلت الأسرة إلى العراق لأسباب سياسية، ثم أرسلهن إلى خارج الكويت والبلاد العربية، ولا سيما إلى بريطانيا، لإكمال تحصيلهم الجامعي في زمن كان فيه مثل هذا العمل صعباً ونادراً.

حيث كان الرجل مؤمناً بضرورة التغرب من أجل العلم ويردد أمام أبنائه بيت الشعر القائل: «تغرب عن الأوطان في طلب العلا/ سافر ففي الأسفار خمس فوائد/ تفريج هم واكتساب معيشة/ علم وآداب وصحبة ماجد»، وبسبب إصراره على تعليم بناته في بريطانيا قاطعه إخوانه لفترة من الزمن بحسب ما روته ابنته لولوة.

لذا كانت شريفة محظوظة بين مجايليها من بنات الكويت، (وكذا شقيقتها لولوة، التي تعد أول خريجة كويتية من بريطانيا في عام 1960م، وشقيقتها الأخرى منيرة التي تعتبر أول كويتية متخصصة في العلاج الطبيعي وتأهيل المعاقين من جامعة لندن في عام 1964، وشقيقتها المحسنة المعروفة رقية، التي كانت الأولى بينهن لجهة السفر إلى بريطانيا للدراسة بعد إتمام تعليمها بمدرسة للراهبات في العراق)، لأن والدهن المتنور لم يتردد في إرسالهن إلى مدن بريطانية مختلفة، وكان من نصيب شريفة أن درست في إحدى كليات لندن لمدة عامين، تعلمت وأجادت خلالهما اللغة الإنجليزية، وحصلت على دبلوم في الإدارة وأعمال السكرتاريا، ما ساعدها، بعد عودتها إلى بلادها في الالتحاق بشركة النفط، والمعروف أن شريفة تزوجت من قريبها خليفة أحمد الغانم، وأنجبت له كلاً من علي وعبدالوهاب وسليمان ومريم، ثم تزوجت للمرة الثانية من شاهين الغانم، ولها منه أبناء وأحفاد.

ومن مقابلة منشورة في العدد 51 من مجلة «اليقظة» اللبنانية، أجراها معها مندوب المجلة، الذي قدم إلى الكويت من بيروت خصيصاً للتعرف على قصة هذه الفتاة الجريئة، وأسباب التحاقها بالعمل في شركة النفط، نجدها تقول إن إقدامها على كسر المحظور، والخروج إلى سوق العمل ناجم عن إيمانها بضرورة اقتحام المرأة جميع ميادين الحياة، وفق ما يتفق وطبيعتها «لأن المرأة نصف المجتمع ويجب أن تشارك الرجل في نهضة المجتمع وتقدمه، ولأن الأمة لا ترتقي إلا بنهوض المرأة اجتماعياً وعلمياً ونفسياً».

وفي مكان آخر من الحوار نجدها تؤكد أن المرأة لو فتحت أمامها السبل لأثبتت كفاءتها ومقدرتها من ميدانها الصغير في منزلها، ثم في الميدان الكبير، وهو الوطن بأكمله.

ورداً على سؤال عن الصفات التي يجب أن تتحلى بها المرأة في عملها أجابت بأن «الأخلاق هي أقوى وأمضى سلاح يجب أن تتحلى به المرأة، فالأخلاق سلاح ماض يحمي المرأة، ويحفظ لها كرامتها وأنوثتها، ويجبر الناس على احترامها وتقديرها»، وأضافت أن من الأمور الأخرى أن تحترم زملاءها في العمل، وأن تضع نصب عينيها الثقة والاحترام والشعور الطيب للجميع، وبذلك تلقى مساعدة فعالة من زملائها، وتتلافى أي مشاكل في عملها.

انتقلت شريفة إلى جوار ربها عن عمر ناهز 83 في يوم الأحد الخامس عشر من مارس سنة 2020، ووريت الثرى بمقبرة الصليبيخات.