السابع من أكتوبر عام 2023 بات من المعايير الحاكمة لاستقرار الإقليم والمنطقة، بعد أن صار الإقليم في هذا التوقيت هدفاً لضربات جيوسياسية متعددة، جعلت السيناريوهات المستقبلية مفتوحة.
وكانت الهجمات على غزة واحدة من أخطر هذه الضربات، إذ إنها كشفت عن أن العقل الإسرائيلي يفكر في شطب القضية الفلسطينية من خرائط الإقليم، وضم أراضيها إلى إسرائيل، حسب ما ردده كل الزعماء التاريخيين للصهيونية العالمية، بدءاً من الصحافي النمساوي المجري تيودور هيرتزل، مروراً بحاييم وايزمان، وديفيد بن جوريون، وجولدا مائير، وصولاً إلى بيجن وشامير ونتانياهو.
هذه الفكرة أصيلة في عقول الصهيونية، وبالتالي جاءت الحرب على غزة ضمن سياق تاريخي، وقد رأت إسرائيل وحلفاؤها أن التوقيت مناسب لتنفيذ هذه التصورات الموروثة منذ 100 عام وأكثر.
تداعيات هذه الحرب المزمنة والمتكررة على الفلسطينيين طالت كل عموم الإقليم، بل هددت اتصال الإقليم بالعالم، ذلك العالم الذي دعم الحركة الصهيونية في السيطرة على الأراضي الفلسطينية، واتخذ منها موقعاً متقدماً يحقق مصالحه واستراتيجياته.
لا شك أن الحرب على غزة خلطت الأوراق، وزادت من غيوم المشهد الدولي، وأربكت حسابات كثيرة على المسرح العالمي، وخلقت حالة تأهب جيوسياسي من قبل أطراف ما كان لها أن تظهر لولا استدعاء هذه الحرب لها، بل إن بعض هذه الأطراف تدخلت بذريعة الدفاع عن فلسطين، وفي الواقع كانت تقوم بتأمين مصالحها الذاتية.
كذلك استدعت هذه الحرب أطرافاً بعيدة، وقوى كانت لها السيطرة في الإقليم قبل عقود طويلة، لتستعيد بها النفوذ والمصالح والقوة من جديد.
الحرب التي مضى عليها نحو 9 أشهر كشفت الأقنعة عن الوجوه متضاربة المصالح والمواقف، وقد دفع الشعب الفلسطيني الثمن الباهظ أنهاراً من الدماء وآلافاً من الشهداء والجرحى، وتدميراً وتخريباً لما يملك من مقدرات.
مع ذلك راحت أكثر من قوة تتذرع بانخراطها في القضية الفلسطينية، والواقع أن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الأوروبية تتساوى وتتوازى مع الدول الأخرى التي تبدو ظاهراً أنها تدعم القضية.
الحقيقة أن الذي يدفع الثمن دول الإقليم الداعمة لحق الشعب الفلسطيني، وهي دول الطوق المجاورة للدولة الفلسطينية.
هنا أقول إن القضية الفلسطينية هي التي تشكل جوهر الحرب والسلام والسياسة في قلب الإقليم، وتمثل جوهر التغيير الدائم لدى الرأي العام، فهي شريكة في التغيرات التي جرت مع بداية الخمسينيات إلى الآن، فقد تسببت هذه القضية في تغيير بنية السلطات الحاكمة في تلك الفترة، خصوصاً بعد عام 1948، الذي سمي عام النكبة، ما جعل الشعوب العربية تفكر في تغيير المسارات.
وقع ذلك بالفعل في معظم الدول العربية، وتصاعد بمرور الحقب، خصوصاً بعد حرب عام 1967، وحرب أكتوبر عام 1973، وأخيراً ما جرى من حروب إسرائيلية على الفلسطينيين خلال العقود الأخيرة، أبرزها بعد السابع من أكتوبر، الذي بات يغير مفاهيم الحرب والسلام، ويغير ترتيب الخرائط والنفوذ والقوى على المسرح العالمي.
لا شك أن تداعيات هذه الحرب على الإقليم جعلته أكثر هشاشة، لكنه لم ولن يخرج من التاريخ، وأن المخطط الإسرائيلي الذي أشرت إليه في بداية المقال، تهشم هو الآخر وأصابه الوهن، ولم تستطع إسرائيل تنفيذه رغم الدعم الهائل من كل حلفائها.
لكن هذا المشروع لا يزال يترك جروحه العميقة في جسد هذا الإقليم الذي يدخل مرحلة استنزاف طويلة آن لها أن تتوقف، وآن للشعب الفلسطيني أن يصل إلى دولته المستقلة.
الطريق واضح أمام القوى العالمية إذا أرادت، فليس جديداً أن نؤكد أن الإقليم لن يستقر ولن ينعم بالأمان من دون شطب فكرة تصفية القضية الفلسطينية من أذهان الحكومات الإسرائيلية المتطرفة والمتعاقبة، ومن دون أن يستيقظ ضمير العالم، ويعيد العدالة إلى الشعب الفلسطيني.
وقد بدأها الرأي العام العالمي بعيداً عن حكوماته، وقال كلمته من أجل فلسطين، دولة وشعباً، لأنه يدرك في وجدانه وعقله الجمعي أن خرائط العالم تأبى أن تكتمل من دون الدولة الفلسطينية.