في العام 1926 بنى الفلسطيني حنا بشارات بيتاً فخماً في حي الطالبية بالقدس الغربية. أيامها كانت القدس لا شرقية ولا غربية. أسمى البيت «فيلا هارون الرشيد» تيمناً بالخليفة العباسي. ووضع لافتة على واجهة الفيلا تحمل الاسم.
في مرحلة لاحقة ضاقت أحوال حنا بشارات وزوجته ماتيلدا فارس فأجّرا الفيلا لضباط بريطانيين واستأجرا بيتاً صغيراً في حي البقعة المجاور. في نكبة 1948 استولت الهاغاناه، إحدى العصابات الصهيونية، على الفيلا المشرفة على المنطقة ومن دون سفك دماء. فالضباط البريطانيون سلموا مفاتيحها للمحتلين.
في ستينيات القرن الماضي، سكنت الفيلا غولدا مائير رئيسة حكومة ما أصبحت تسمى «إسرائيل». كانت اللافتة «فيلا هارون الرشيد» لم تزل على بوابة البيت لكنها سارعت لإخفائها قبيل استقبالها الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك داغ هامرشولد لكي لا يكتشف أنها تقيم داخل بيت فلسطيني.
في 15 مايو 1948، سنة النكبة، هاجر حنا وعائلته قسراً من القدس وأجبروا على ترك الفيلا والذكريات والتاريخ. لكن مهما حاول الإنسان طمس الحقيقة فإن الحجر يظل ينطق بها والشجر شاهداً عليها.
العام 1977 زار جورج بشارات البروفيسور المحاضر في الحقوق في «هاستينغز كوليج» في سان فرنسيسكو وفي جامعة هافارد، للمرة الأولى بيت جده حنا. وتربى جورج على حكايات والده حول طفولته في هذا البيت والحقول والكروم من حوله.
يقول جورج الذي يحمل الجنسية الأمريكية: «جئت القدس وبيدي صورة الفيلا في الطالبية مع شروحات حول موقعها زودني بها جدي. كان الطقس حاراً ومغبراً. كنت أتجول في الطالبية وأعاين البيوت بحثاً عن (هارون الرشيد)»، وكانت المهمة غير سهلة فقد غيروا أسماء الشوارع وخلدوا بها شخصيات يهودية وصهيونية.
الذكريات العائلية التي حافظت على الفيلا أنقذتني من الشعور بالاغتراب وفقدان الطريق الذي فرضه علينا الحاضر. فيما اتكأت على جدار في الظل شاهدت بيتاً مشابهاً لبيت والدي، سارعت لاجتياز الشارع وما لبثت أن رأيت اللوحة الرخامية في واجهته تحمل بالعربية الاسم «هارون الرشيد». فجأة غمرتني مشاعر غضب، وحزن، والأهم توتر ممزوج بالقلق.
ورد هذا النص في كتاب «مترابطون» للباحث مناحم كلاين الذي يتحاشى أحياناً استخدام مصطلح «لصوص» مكتفياً بالقول مستوطني الفيلا، فيقول إن الدائرة أغلقت عندما مست أصابع جورج حجارة البيت التي ربطتني مع عائلته علاقة قديمة.
يقول جورج بشارات حسب كلاين: «تقدمت داخل الحديقة المفضية لمطلع الدرج الحجري الأمامي ووضعت كفة يدي عليه كما فعل والدي وجدي كلما صعدا وهبطا من البيت كل يوم. قرعت الجرس وفتحت سيدة مسنة الباب. شرحت لها أن جدي بنى البيت وكشفت لها جواز السفر الأمريكي، وسألت إن كان ممكناً القيام بزيارة قصيرة داخل البيت. قالت: «عائلتك لم تسكن هنا أبداً».
في تلك اللحظة تعطلت الكلمات في فمي فلم أواجه من قبل مثل هذا الادعاء. وما لبث أن حضرني الجواب وقول الحقيقة لكنني خشيت أن تمنعني من دخول الفيلا. شعرت بالغليان إزاء الحاجة للتذلل كي تدخل منزل عائلتك أمام سيدة لا أعرفها ولا أعرف من أي بقعة في الدنيا هاجرت إلى هنا!
ويوضح الباحث كلاين أن زوج السيدة سرعان ما انضم لها وهو القاضي السابق في المحكمة العليا الإسرائيلية تسفي برنزون.
ويتابع الاقتباس من جورج بشارات: «برنزون أتاح لي دخول الفيلا شريطة الاكتفاء بزيارة الصالون فقط بدعوى أنه لا حاجة لمشاهدة بقية أقسام البيت خصوصاً أنها خضعت وتخضع لتغييرات.
أصر الزوج وزوجته على أن البيت كان بحالة رثة وبحاجة ماسة لترميمات استثمرا بها كثيراً. لم أشكك بهذا الزعم فقد كان البيت بارداً وقد حاولت تخيل سماع أصوات والدي موريس، وإخوته وأخواته واستنشاق رائحة الطعام الذي طهته جدتي داخل المطبخ.
غادرت الفيلا بعد خمس دقائق فقط. خرجت للشمس الحارقة ولم أشعر بعداء خاص حيال الزوجين المسنين اللذين يقيمان داخل بيت والدي علماً أنه من الصعب اعتبار الضيوف، قيمة مهمة في الثقافة الفلسطينية، حينما يستولي الضيف على البيت بشكل غير مشروع».
ذكرتني حكاية بشارات المسيحي الفلسطيني بما حدثني والدي عن أبو إبراهيم اليهودي الذي كان يسكن وعائلته في قريتنا المهجرة «الجماسين/ يافا (قبل النكبة)» كعائلة منا يمارسون طقوسنا ونمارس طقوسهم في المناسبات والأعياد.
كان التعايش سمة الحياة لكل من يعيش في فلسطين. وربما لم يزل ممكناً!