البيئة تحب الدائرة!

لا تسرف «وإنْ كُنتَ على نَهَرٍ جارٍ».. دعوة نبوية صريحة تدور حولها فكرة الاستدامة العصرية. هذا التوجه يمهد لفكر يكافح التبذير بكل صوره. في عصرنا ظهر مفهوم الاقتصاد الدائري Circular Economy الذي يسعى إلى القضاء على التبذير بشتى أشكاله أملاً في استدامة مواردنا الطبيعية.

ولذلك ارتفعت حمى استبدال البلاستيك بمواد طبيعية كالأخشاب أو ما يمكن تحلله أو إعادة تدويره في كل القطاعات كالفنادق والمطاعم والمرافق العامة.

ولكي نحقق ذلك نحتاج إلى أساليب أكثر كفاءة في إنتاج السلع فضلاً عن طريقة استخدامها. فمن مساعي الاقتصاد الدائري مثلاً إعادة استخدام المنتجات لأكثر من مرة، والاستفادة من الطاقة الفائضة، وتقليل النفايات، وغيرها حتى يمكننا أن نصل جميعاً إلى نموذج حياتي أكثر استدامة.

قرأت ذات مرة عن أول مصنع في العالم ينتج الألواح الخشبية من مخلفات النخل. ورأيت فيديو لإماراتية تقف في مصنع يعيد تصنيع الشوك والملاعق والسكاكين الأشبه بالخشبية من جريد النخل. فهي تمتاز بأنها بديل مستدام وآمن.

إذن تقوم فكرة الاقتصاد الدائري على مكافحة الهدر والتبذير لحياة لا تستنزف خيرات الطبيعة. ولذلك يردد المسلمون آية «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين». ويقول الفرنسيون إن «آفة الجود الإسراف». ويهمس بنجامين فرانكلن في آذاننا فيقول: «حينما تجف البئر ندرك قيمة الماء».

أما أقدم الأمم الصينيون فيرددون إن «أفضل وقت لزرع شجرة كان قبل 20 سنة. ثاني أفضل وقت هو الآن». وهذا يعني أن فكرة الاستدامة فطرة متأصلة عند البشر لكننا لا نمارسها بجدية. ولو كان الأمر كذلك لما كانت هناك حاجة لمقولات الحكماء والأمثال والقوانين الرادعة.

يهدف الاقتصاد الدائري إلى استخدام أقل قدر ممكن من الموارد الجديدة وإعادة استخدام ما هو متاح منها واقتصار قرار شراء مواد جديدة على أضيق الحدود. ونحن في الواقع بذلك نحاكي سنن الكون أو الطبيعة التي تتكيف مع الظروف المتاحة.

فتتغذى الأشجار، مثلاً، على ما يسقط من ثمار وأوراق شجر، وتفرح الشجيرات بزخات من المطر تروى بها ظمأها. لا تتذمر ولا تتكبر بل تمضي الطبيعة في طريقها بهدوء بالاستفادة من الموارد المتاحة. هكذا خلقها سبحانه وهكذا ينبغي أن نكون بالمحافظة عليها.

الأمر نفسه ينسحب على كل شيء تقريباً. مثل عدم المبالغة في تغيير ملابسنا من دون أي مبرر، وإعادة استخدام منتجات التغليف والعبوات والأواني، واستخدام الطاقة الشمسية التي بدأت بريطانيا بشراء الفائض من حاجة البيوت لسد حاجات مرافق أخرى.

فصارت الطاقة مصدر دخل جديد ومستدام لسكان المنازل. يمكن أيضاً إعادة الاستفادة من مياه الوضوء في المساجد في ري مزروعاتها وهو اقتراح تقدمت به قبل سنوات طويلة، لكنه لم يجد آذاناً صاغية.

على غرار السيارات، هناك أيضاً من يؤجر دراجات هوائية لتقليل انبعاثات عوادم السيارات، ويعير ملابس السهرة والمناسبات لتقليل هوس شراء ملابس جديدة. وهناك من يستخدم مخلفات الطعام والبقايا العضوية لإنتاج طاقة أيضاً.

حتى المباني، صارت تطوع عملية بنائها بحيث تستخدم فيها مواد معاد تصنيعها وصديقة للبيئة. ويمكن كذلك إعادة تأهيل المباني القديمة بدلاً من الردم والهدم والهدر. كثيراً ما نشاهد في أوروبا مبنى عريقاً كمكتب بريد أو مقر حكومي تاريخي يتجاوز عمره 100 عام يتحول إلى فندق أو منتجع أو سلسلة متاجر كبرى، لكنه يحتفظ بواجهته القديمة لتثير انتباه السياح والمارة من ناحية ولتحفظ التراث في البلاد من ناحية أخرى.

وهذا ما يدفع على ما يبدو إمارة مثل أبوظبي لتكثيف جهودها في قضايا بيئية مهمة لأنها أضحت التوجه العالمي الجديد، وذلك في محاولة لتقليل الاعتماد على موارد طبيعية ناضبة أو محدودة.

فكرة الاقتصاد الدائري تعني أننا سنعود إلى النقطة التي انطلقنا منها من دون هدر. فمجرد الشعور بأننا سنرجع إلى الموضع نفسه يدفعنا للاقتصاد والقرارات الرشيدة. أما الهدر كمن يسير في خط مستقيم لن يعود بسببه إلى خط البداية.

ولذلك يستهلك الفرد، ويهدر، ويرمي في عرض البحر مخلفاته لأنه يظن بأنه لن يرجع إلى حيث كانت انطلاقته! تحب البيئة السلوك الدائري أكثر من خطوطنا المستقيمة التي ليست من الاستقامة في شيء.