في احتفال مصر بالذكرى الخمسين لنصر أكتوبر 1973، ألقى الرئيس عبدالفتاح السيسي كلمة في ندوة القوات المسلحة بهذه المناسبة الجليلة.
وفي كلمته، أصاب الرئيس بتعريفه الدقيق للهزيمة التي منيت بها مصر وسوريا والأردن من إسرائيل في 5 يونيو 1967، حيث أكد «أن الهزيمة تقع عندما يتم القبول بها، لكن الشعب المصري لم يقبل بالهزيمة عندما رفض تنحي الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في التاسع من يونيو عام 1967»، لافتاً إلى أن أحد عناصر القوة الشاملة لمصر خلال تلك الفترة هو شخص الرئيس، وأن «حالة الهزيمة كانت فقط في الميدان العسكري».
وأوضح الرئيس أن حالة أخرى سادت مصر هي «حالة التحدي القومي يوم 9 يونيو في ذلك العام، عندما خرج المصريون رفضاً لتنحي الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وقالوا (لا) للتنحي»، معتبراً أن هذا الأمر كان مهماً بالنسبة لتأثيراته الضخمة جداً على مصر وعلى الجيش وحتى على الأمة العربية.
وتابع الرئيس السيسي في كلمته بالتأكيد أن قصة حرب 6 أكتوبر بدأت وسط حالة الألم والهزيمة، برفض المصريين تنحي عبدالناصر، وتحملهم حتى 1973 ظروفاً هائلة وضخمة على المستويات كافة، منهياً حديثه بالتشديد على تجنب تشويه خروج المصريين يوم 9 يونيو والزعم بأنه كان مرتباً، لأن المصريين خرجوا للإعراب عن رفضهم للهزيمة رغم ما تعرض له الجيش المصري ووجود الإسرائيليين على أرض سيناء.
هذا هو ما قاله الرئيس المصري عن دلالات يوم التنحي هذا، والذي ما تكاد تحل ذكراه سنوياً، حتى تتعالى أصوات معروفة توجهاتها ومراميها، لكي تمعن في الادعاء بأن ما جرى فيه كان مرتباً من قبل نظام الرئيس عبدالناصر، مسقطة إياه بهذا من جدار التحدي والتصدي الذي وضع الشعب المصري أساسه بخروجه يومها، ليصل بعدها بست سنوات إلى نصر أكتوبر العظيم عام 1973.
أما ما شاهده طفل صغير في هذا اليوم بنفسه ولم يكن قد بلغ الحلم حينها، والذي كنته أنا شخصياً وكدت أقترب من سن الثامنة، فهو بالضبط ما قاله الرئيس السيسي، وهو عين الحقيقة كما صنعها ويعرفها المصريون. كانت مشاهدات الطفل حيث كان يعيش في مدينة قنا التي تبعد جنوباً عن القاهرة قرابة 600 كيلومتر.
كان الوقت ساعتها يقترب من المغرب، وكان الطفل يلعب وأبناء خالته وجيرانه أمام منازلهم في الشارع الصغير الذي يبعد عن الشارع الرئيس الكبير الذي كانوا يسمونه «الجسر» نحو 80 متراً فقط.
وفجأة، خرجت ابنة خالة الطفل الطالبة الجامعية للعام الأول حينها (رحمها الله) تصرخ من منزلهم وهي تلطم خديها بخفيها، ولما سألها الطفل وأقرانه عما جرى، أجابت وهي تنتحب: «الريس استقال». لم يدرك الطفل ومن معه معنى هذا، ولكنهم لاحظوا بعد دقائق جري وهرولة كثيرين من «الكبار» من الشارع الصغير نحو «الجسر»، فجروا وراءهم حتى يروا ما يحدث.
وكان الاتجاه على اليمين من «الجسر» يؤدي على بعد نحو 120 متراً فقط لمقر «الاتحاد الاشتراكي العربي» لمحافظة قنا كلها. وحينما وصل الطفل ورفاقه إلى الجسر وبعد دقائق قليلة، كان عشرات ثم مئات من أبناء المدينة وضواحيها من بسطاء الناس وأوسطهم يتدافعون نحو هذا المقر، الذي سرعان ما اختفى وراء جموعهم الغفيرة الزاعقة.
ويتذكر الطفل أنه بعد ذلك، خرج رجل كهل له هيبة إلى شرفة المقر ليلقي كلمات تهدئة للجموع الغاضبة الحزينة، وعرف بعدها بكثير أنه زكي علام أمين الاتحاد الاشتراكي بالمحافظة (رحمه الله).
وما هي إلا سويعات قليلة، حتى تجمهر أبناء المدينة الصغيرة في كل أنحائها وخاصة على «الجسر» حول الاتحاد الاشتراكي، ورأى الطفل بعينيه عربات نقل عديدة تتقاطر في الشوارع ويركبها مئات من الناس، وعرف من بعضهم أنهم في طريقهم للقاهرة، لمنع «الريس» من التنحي ورفض الاستسلام للهزيمة. ولما تزايد الزحام، أرسل الأهل من يجلب الطفل ورفاقه إلى منزله، وهناك في منزل جده لأمه (رحمه الله) رأى المشهد الأخير.
فقد نادى الجد الوقور قليل الكلام حفيده الأكبر ابن خالته (رحمه الله) والذي يكبره بنحو عشر سنوات، ليرسله إلى مكتب «التلغراف» لكي يبعث باسمه واحداً إلى «الريس» يقول له فيه: «ما ينفعش تسيبنا دلوقتي، نسد تارنا الأول وبعدين لها عدل». إنها مجرد مشاهدات طفل لم يدرك ما رآه حينها، وهي كما جرت دون إضافة أو حذف، وهي على الأرجح عين الحقيقة التي صنعها ويعرفها المصريون.