حضارة ماضية

أعود بين وقت وآخر نحو التاريخ لأخذ العبرة والعظة من أحداثه، وبالفعل لقد وجدت أن الضياع الحقيقي أو السرقة الحقيقية تكمن في إتلاف ونهب المنجزات الإنسانية مهما كان نوعها، فهذه المنجزات المعرفية التي لا وظيفة لها إلا خدمة البشرية، عندما تصادر وتحرق، فهنا تلمس حالة من جنون الإنسان ضد أخيه الإنسان، أعود بالذاكرة نحو أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن، دار معرفة كانت تحوي عصارة فكر علماء البشرية، طوال أكثر من ستمائة عام، جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون، من علوم شرعية وحياتية كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وعلوم الأرض، ومن علوم إنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة وغير ذلك، هذا كله بالإضافة إلى ملايين الأبيات من الشعر، وعشرات الآلاف من القصص والنثر، وإن أضفت إلى كل ما سبق الترجمات المختلفة لكل العلوم، الأجنبية سواء اليونانية أم الفارسية أم الهندية أم غير ذلك علمت أنك تتحدث عن معجزة معرفية حقيقية من معجزات ذلك الزمان، إنني أقصد مكتبة بغداد، والتي كانت مكتبة عظيمة بكل المقاييس.

نحن نتحدث عن دار للعلم، حوت ملايين الكتب والمجلدات في زمن ليس فيه طباعة، كانت مكتبة بغداد تشتمل على عدد ضخم من الحجرات، وقد خصصت كل مجموعة من الحجرات لكل مادة من مواد العلم، فهناك لكتب الفقه، وأخرى لكتب الطب، وهناك لكتب الكيمياء ورابعة للبحوث السياسية، وغيرها من الحجرات، وكان في المكتبة المئات من الموظفين الذين يقومون على رعايتها ويواظبون على استمرار تجديدها، فقد كان هناك النساخون، الذين ينسخون من كل كتاب أكثر من نسخة، وكان هناك المناولون، الذين يناولون الناس الكتب من أماكنها المرتفعة، وكان هناك المترجمون، الذين يترجمون الكتب الأجنبية، وكان هناك الباحثون الذين يبحثون لك عن نقطة معينة من نقاط العلم في هذه المكتبة الهائلة، وغيرها من غرف للمطالعة والدراسة، وغرف خاصة للترفيه والأكل والشرب، بل كانت هناك غرف لإقامة طلاب العلم الذين جاءوا من مسافات بعيدة!
لقد حوت هذه المكتبة عصارة الفكر الإنساني في القرون المنصرمة، ويذكر أن المأمون، كان يضع شرطاً على ملك الروم في معاهداته بعد الانتصارات أن يسمح للمترجمين المسلمين بترجمة الكتب، وكان هناك موظفون يجوبون الأرض بحثاً عن الكتب العلمية بأي لغة لتترجم وتوضع في مكتبة بغداد بعد أن يتولاها العلماء المتخصصون بالنقد والتحليل، ولقد ترجمت في مكتبة بغداد الكتب المكتوبة باللغات اليونانية والسريانية والهندية والسنسكريتية والفارسية واللاتينية وغيرها.

هذا جميعه تم تدميره وحرقه أمام الغوغاء، عندما هاجم التتار بغداد، وهي الجريمة التي دونتها كتب التاريخ في كل أمة من أمم الأرض، والتي تعد من أفظع الجرائم الحضارية في تاريخ الإنسان، فقد غزوا هؤلاء القوم بغداد وأبادوا كل ما هو قيم ونفيس، لقد حمل التتار الكتب الثمينة، ملايين الكتب التي لا تقدر بثمن، وببساطة شديدة مليئة بالهمجية، ألقوا بها في نهر دجلة حتى تحول لون مياه النهر إلى اللون الأسود والأزرق من أثر حبر تلك الكتب، وقيل إن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى، تم تدمير كل ما وقعت عليه يدهم من كتب بذلت فيها سنوات وسنوات من أعمار المؤرخين والعلماء، وأنفق في سبيل كتابتها الكثير من المال والعرق والجهد.

دوماً ما يتم ترديد سؤال مفاده ماذا لو لم تحرق مكتبة بغداد العظيمة؟ بل وعدد آخر من المكتبات التي كان مصيرها الحرق والتدمير في العصور الإسلامية المنصرمة، أين كنا سنكون؟ وأين كنا سنصل من العلم؟ وأي الحقائق والمعلومات التي كانت ستختصر الكثير من السنوات والعقود؟
لله الحمد تدرك بلادنا وقادتنا أهمية هذه الكنوز المعرفية – المكتبات – في التطور والتقدم الحضاري لذا تم إنشاء مئات المكتبات العامة في الإمارات، فأغلب الأحياء يوجد فيها مكتبة عامة، ومنها دار الكتب الوطنية، حيث تضم قرابة مليوني مجلد يشـمل الكتب والدوريات والمخطوطات والمواد الإلكترونية، ويبلغ عدد عناوينها العربية أكثر من 300.000 عنوان والعناوين الأجنبية ما يزيد على 100.000 عنوان.

والجميع يعلم أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، أطلق «تحدي القراءة العربي» أكبر مشروع عربي لتشجيع القراءة لدى الطلاب في العالم العربي عبر التزام أكثر من مليون طالب بقراءة خمسين مليون كتاب خلال عام، والذي سيخرّج جيلاً مبتكراً يقود نحو مستقبل واعد يتحقق بغرس حب القراءة وشغف البحث.

وبمثل هذه الرؤية والتطلع سنعوض خسارتنا لمكتبة بغداد العظيمة، وتعود أمتنا أمة اقرأ وابتكر.

الأكثر مشاركة