منذ يومين تقريباً دخلت الحرب الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة شهرها العاشر، مخلفة وراءها عدداً غير مسبوق من الضحايا ممن فقدوا أرواحهم.

ومن الذين أثخنت الجراح أجسادهم (عشرات الآلاف)، ومن تدمير لقرابة 70% من البنى التحتية والمناطق السكنية في القطاع، وهو ما يفوق ما شهدته أي مدينة أخرى حول العالم، بما في هذا أثناء المعارك الطاحنة في الحرب العالمية الثانية، التي استغرقت ست سنوات.

ولم تكن هذه الحرب الدموية التي لم تنته بعد، بين جيوش نظامية ولا قوتين متكافئتين من أي جانب، ولكنها حرب بين جيش مصنف إقليمياً ودولياً كواحد من أكثر الجيوش تقدماً وقوة وعدداً وتجهيزاً تسليحياً وتقنياً، وبين مجموعات من الفصائل المقاومة المسلحة التي لا تصل بعددها مجتمعة وفق أقصى التقديرات إلى 40 ألف مقاتل.

وتعرض شعب قطاع غزة الفلسطيني المدني الأعزل المقارب لنحو 2.5 مليون شخص خلال هذه الحرب، لأقصى وأقسى ما شهده طوال 76 عاماً من الصراع المسلح، من قصف وتدمير، بحيث زاد ما أصابه من متفجرات على 75 ألف طن خلال الشهور التسعة المنصرمة.

وتدخل هذه الحرب بدمويتها المفزعة وسوابقها غير المعروفة، سجل التاريخ كحدث فريد وغير متكرر في كل الحروب والصراعات المسلحة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ليس فقط من الزوايا السابقة، ولكن أيضاً من نوعية الضحايا والخسائر التي نتجت عنها. فقد أوقعت قرابة 200 ضحية من موظفي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

وهو عدد غير مسبوق لأي وكالة أو منظمة تابعة للأمم المتحدة منذ تأسيسها، ودمرت عشرات من مدارسها التي أوى إليها مئات الآلاف من النازحين الفلسطينيين وأخرى من مستودعاتها الطبية والتموينية. وقتل في هذا العدوان من الأطفال وحدهم خلال شهورها الخمسة الأولى، بحسب تصريحات المفوض العام لوكالة الأونروا، ما يفوق من قتلوا في كل حروب وصراعات العالم خلال 4 سنوات قبلها.

وقتل الهجوم الإسرائيلي على غزة من الصحافيين نحو 145 شخصاً، وهو ما يفوق عدد كل الصحافيين الذين قتلوا خلال السنوات الست للحرب العالمية الثانية، كما قصف ودمر العدد الأكبر عالمياً وتاريخياً من المنشآت الصحية والمستشفيات.

وبعد كل هذه الأرقام – السوابق – المآسي، يبقى رقم آخر مركزي وشديد الأهمية والدلالة أبرزته الحرب الإسرائيلية الدموية.

فما يسمى في القاموس الإسرائيلي «حرب الاستقلال»، وهي تلك التي دارت بعد إعلان «الدولة» في 15 مايو 1948 بدخول جيوش ست دول عربية في حرب معها، لم تستغرق سوى نحو 9 أشهر و3 أسابيع ويومين، إذ انتهت في 10 مارس 1949، وبدأ بعدها عقد اتفاقيات الهدن بين الدولة الجديدة وهذه الدول العربية تباعاً حتى منتصف ذلك العام.

والشائع منذ تأكد استطالة هذه الحرب وعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على حسمها، بداخل الوعي العام في المجتمع والنخب ومؤسسات الحكم والأمن والجيش الإسرائيلية، أن مصير «الدولة»، وفقاً لهذا هو الأكثر تهديداً، وخصوصاً بعدما تتابعت ملامح تضعضع قدرة ردع جيشها، وإشارات إخفاق أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، وتعدد علامات تفتت مجتمعها وفقدانه ما يدفع لاستمرار البقاء فيه ويجذب للهجرة إليه.

من هنا، فقد تعددت إلى درجة ملفتة إشارات الخطاب العام الإسرائيلي، وفي مقدمته رئيس الوزراء نفسه، إلى أن الحرب في غزة هي «حرب وجود» الدولة، وليست مجرد حرب كاللاتي سبقنها.

والأكثر ترجيحاً أن كل مجريات وتفاصيل هذه الحرب وعلى رأسها تجاوز مدتها «حرب الاستقلال» وفق المصطلح الإسرائيلي، من دون التوصل لنتائج حاسمة تخفف من تصاعد المخاوف وترضي التوقعات القديمة لقدرة جيش ودولة وأجهزة على «الردع والحسم» السريعين، الأرجح أن طول الحرب هو العامل الرئيس بين كل العوامل الذي أعاد لإسرائيل، مجتمعاً ونخبة وأجهزة ومؤسسات، طرح سؤال «الوجود» بإلحاح وجدية للمرة الأولى منذ نهاية ما يطلقون عليه «حرب الاستقلال» قبل 75 عاماً.