عرَّف آرثر ريبر الخيال، بأنه عملية اتحاد الذكريات والخبرات السابقة والصور التي تمّ تكوينها مسبقاً وتوظيفها داخل بنية جديدة، وهو عبارة عن نشاط يقوم به الإنسان بكل إبداع، وقد يكون مبنيّاً على أساس رغبات الإنسان، أو الواقع الذي يعيشه، أو قصص مستقبلية، أو مراجعات عن ماضيه، فهو بذلك توقعات الحاضر، ومراجعة الماضي، وابتكار المستقبل.

وعرفه أيضاً بعض اللغويين بأنه الشيء الذي لا معالم له، أي الشيء الذي لا يقر به عقل الإنسان في الرؤية، ولا يكون في تصور عقله، أي مثل «الهاجس». وعلى رغم هذا الإبداع الذي تصوره أذهاننا، إلا أن طائر الخيال نفسه يعجز، في كثير من الأحيان، عن إدراك ما نشعر به، وهذه الفوضى العارمة، سرعان ما تتلاشى، إن استطعنا أن نضع أيدينا على المواطن التي تُشعرنا دائماً بالطمأنينة. 

هكذا أنا اليوم، استيقظت وأنا لا أعلم ما يجُول في داخلي، فأثناء قارب السكينة الذي كنت أبحر به، تسلل صوت جميل داخلي، صوت يحاول أن يسلبني سكينتي، ويحولها إلى شجن لا أعرف مصدره، ساقتني قدماي إليه، وأنا أستمع للمغني والكاتب الإسباني «خوليو إجلسياس».
مهلاً!!
مهلاً!!
كان ذلك الصوت ينساب كمياه جدولٍ بين الشعاب، تدخل إلى داخلك وتثلج خاطرك، فتحت نافذتي الصغيرة الوحيدة المطلة على هذه الشقة التي تتوسطها الشرفة الكبيرة المطلة على اتجاه مختلف، وتقع في الجنوب الشرقي من ذلك المبنى.

ما زلتُ أستكشف حقائق غريبة في هذا المبنى، والغريب في الأمر، أن الشكل المخروطي الذي يميّـزه، يعطيك انطباعاً بأنه لا يخفي شيئاً. وهو عكس ذلك، في الواقع، فكل زاوية تحمل في جعبتها الكثير، إذ إن شقتي وشقة صاحب هذا الصوت في آخر زاوية من ذاك المبني، إذ لا يفصل بينهما سوى شجر التوليب. ولطالما كان الفضول يدفعني لاستكشاف ما وراء هذه النافذة الوحيدة، التي لم تفتح مصراعيها منذ وصولي، ولطالما تساءلت عمن يكون صاحبها؟

وما إن استجمعت قواي وفتحتها، حتى تكشف المخبوء! فإذا بعصفور صغير حبيس أغصان زهرة التوليب القرمزية. تقدمت وجمال ذلك الصوت يحيط بي من كل جانب، ويأخذ بوقعه وإيقاعه جميع جوارحي وجوانحي. وبخطوات متأنية، اقتربت منه، وأنا أخشى أن تخترق جسارة الأغصان جسده الصغير، أحاول أن أحرره، وما إن وصلت للعصفور الحبيس، حتى دهمني صوت من بعيد: أرجوك لا تقترب منه، فقلت:

لماذا، وأنا أخشى عليه من أغصان الزهرة، فقالت بصوت خافت، وأنا لا أزال أبحث عن مصدر الصوت: لا تخف، عادة ما تكون أزهار التوليب خالية من الرائحة، ومن الأشواك، تحتضنك بألوانها الجميلة الزاهية. أشعر أحياناً بأنها تأخذ شكل الفنجان المقلوب، لها من الجمال ما يعطيك انطباعاً بأن تجاهلها إثم كبير، وفي إيذائها الإثم الأكبر، تقف أمام هيبتها منتصرة من غير أن تخوض معك حرباً.

علمت الآن لماذا كان يستخدمها السلاطين في العصور القديمة كالرمز، ترسم على ملابسهم، وتزيّن قصورهم وأثاثهم. كانت الحكمة كلها تقع في مصدرها، ففي تفاصيلها هيبة، وفي سياقها وقار جميل، من غير تكلف ولا عناء. 

في كل يوم أنا وهذا العصفور حبيس جمالها، بين فنجان يتطلع إلى العالم، وفنجان مقلوب يحمل معه يوماً جديداً مليئاً بالجمال الفطري، نُبحر معه حول عالم يحتضن الطبيعة بالهدوء والسكينة. لا أخفيكم أمراً، أنها أسرَتْني بحديثها، وأصبحت تحت ذلك التأثير طوال اليوم، وهناك سرد في داخلي، شغف «الشرفة التي تميل للسقوط من أين لها كل هذا التأثير»؟!

ابتعدت عنها، ومَا زَالَ أثَرُ كلماتها بَاقِياً في نفسي: 

«من الجميل أن نكون كزهرة التوليب، ينزرع الوقار والهيبة في نفوسنا وفي تصرفاتنا، لا يغيّرها المكان ولا الزمان، حتى وإن كنا على شرفة تميل للسقوط!
ثلاث كلمات تبعدنا عن هذا الواقع: زهرة التوليب وشرفة تميل للسقوط.