يوم 27 من الشهر الماضي، وقبل دقائق من عقد المناظرة الرئاسية الأشهر ربما في تاريخ الانتخابات الأمريكية بين الرئيسين الحالي والسابق، جو بايدن ودونالد ترامب، والتي كان مقرراً أن تكون الأولى على أن تلحقها المناظرة الثانية في بداية سبتمبر، لم يخطر ببال أحد من المحللين والمراقبين للشؤون الأمريكية أنها ستكون الأولى والأخيرة، وأن الرئيس الحالي سيعلن بنفسه مغادرته السباق الرئاسي قبل ثلاثة شهور ونصف الشهر من 5 نوفمبر، حيث ستتم الانتخابات الرئاسية.
ولا شك في أن المناظرات التلفزيونية الرئاسية في سياق الانتخابات الرئاسية الأمريكية ظلت منذ بدايتها عام 1960 بين المرشحين حينها، جون كينيدي، وريتشارد نيكسون، تلعب دوراً مهماً في توجيه قطاع مؤثر من الناخبين الأمريكيين، وهم المترددون، وغير المنتمين لأي من الحزبين الأكبر، الديمقراطي والجمهوري.
وقد أجريت مئات الدراسات واستطلاعات الرأي العام منذ ذلك التاريخ، للتعرف على مدى تأثير المناظرات الرئاسية على قرارات الناخبين، وخصوصاً من المترددين، وغير الأعضاء في الحزبين الكبيرين. وتراوحت نتائج الدراسات والاستطلاعات بحسب السياق التاريخي لكل انتخابات رئاسية، ووفق أداء المرشحين المتنافسين في المناظرة.
إلا أن المؤكد هو أن تاريخ هذه المناظرات الرئاسية لم يشهد قط تأثيراً حاسماً لأي منها على نتائج الانتخابات، ولا مسارها قبل يوم الاقتراع، وظلت تلعب دورها «الثانوي» في التأثير، مفسحة المجال لعوامل أخرى أكثر أهمية، سيما ما يتعلق بالسياسات المعلنة من كل مرشح، وبخاصة فيما يتعلق بالأوضاع الداخلية الأمريكية.
وظلت المناظرات تلعب دورها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ضمن إطار أوسع هو السعي للتأثير على الناخبين من خلال الإعلام، وأدوات الاتصال بمختلف أنواعها، وفي القلب منها تشكيل «الصورة» المرغوبة لدى الناخبين.
وباتت معروفة بين الجميع، متخصصين وعموم الناس، الأدوار المحورية، التي أضحى الإعلام وعملية صنع «الصورة» يلعبونها ليس فقط في مسار الانتخابات الأمريكية، بل وفي مسارات كل انتخابات العالم، وفي توجهات وسياسات كل الكيانات السياسية، وعلى رأسها أنظمة الحكم بمختلف الدول.
وهنا يأتي التفرد الكبير للمناظرة الأولى والأخيرة بين الرئيسين الحالي والسابق، وتقاطعها الكامل مع الإعلام الانتخابي، وعملية صنع الصورة، فقد بدت الدقائق التسعون للمناظرة بمثابة «تحطيم» شبه كامل لصورة رئيس الولايات المتحدة ممثلاً في بايدن، التي يجب أن يكون عليها كرئيس «قادر» و«قوي» للدولة الأولى في العالم اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً.
ظهر بايدن أمام عشرات ملايين الأمريكيين الذين تابعوا المناظرة هشاً متردداً، وأحياناً «مذعوراً»، بما يتعارض تماماً مع ما يعتقد الناخبون الأمريكيون أن على رئيس دولتهم أن يكون عليه. وعلى الرغم من محاولات الرئيس الحالي المتعثرة أن يكون هجومياً على خصمه الرئيس السابق، إلا أن الصورة بدت أكثر سلبية بكل ما اكتنفها من ملامح رآها البعض «كوميدية».
تأكد تفرد وخطورة الصورة من هذه المناظرة، التي أطاحت في النهاية ترشيح بايدن، من أن معظم الاهتمام بها قد انصب من جانب الناخبين، والمراقبين على «الأداء» و«الشكل» في المناظرة، وليس مضمون ما قاله كل مرشح من قضايا عامة، وأخرى تفصيلية في كل المجالات الداخلية والخارجية.
فقد كانت الكاميرات العديدة، التي تنقل بكل دقة «صورة» كلا المرشحين، هي الأكثر أهمية في حسم مصير المناظرة والرئيس بايدن، وربما نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية كلها.
وبالرغم من الصوت المصاحب لصور الكاميرات، فإن «الصورة» وحدها ظلت سيدة الموقف، وبقي في أغلبية الوعي الأمريكي أن «صورة» بايدن لا تؤهله لأن يكون هو رئيس أمريكا القادم.
لم تكن كل التفاعلات السياسية والشعبية السريعة والحادة والحاسمة التي تلت تشكل هذه «الصورة» سوى المآل الطبيعي لهيمنة ودور غير مسبوقين للصورة الإعلامية في مسار الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو ما انتهى إلى اعتذار بايدن عن إعادة الترشح.
حقاً، لقد أطاحت الكاميرا الرئيس.