في ليلة قمراء أرخى الليل سدوله وأطبقت الأجفان عدا عيني، يطوفني النعاس من حينٍ لآخر، وبالكاد أستطيع أن أسيطر عليه. ليستمر الوضع هكذا بين كر وفر حتى وضعت الحرب أوزارها شيئاً فشيئاً، فأخذت نفساً طويلاً ثم أطبقت جفني. لم آخذ من هذه الليلة سوى بعضها، ما زلت أذكر تفاصيلها، قضيت الليلة بأكملها وأنا أنصت لتفاصيل سردية هي الأولى من نوعها. صوت يتسلل إلى شغاف الفؤاد. يسعدني مرة ويبكيني مراراً متى لم يكن اعتيادياً أبداً، بل كان مزيجاً من السحر والجمال.

أبحر معي أيها القارئ عبر سفينة يقودها الخيال ويبعدنا عن الواقع، ولكن ليس الواقع البعيد. لك أن تتخيل إطلالة عبر شرفة قوطية عتيقة تحكي قصصاً أخذها الزمان، تنبعث منها خيوط قمرية لتتسلل عبر ستائر بيضاء مشذبة، تخترق أشعتها الخافتة لتحتضن مصباحاً قديماً يرتعد تارة وينطفئ تارة أخرى، وكأنه قد جاب الكثير من اليوميات وشعر بالكثير على مر العصور.

عبر شرفة مهجورة في أعلى قمة هرم قوطي قضيت ليلتي بين نافذة وشرفة ومصباح يرتعد، يا لهذا المبنى، فقد باتت نوافذه تحبس أنفاسي وتعكر صفوي. أشعر أحياناً بأنها تتملكني عنوة، تستولي على أفكاري رغم اضطرابي في أي عمل معاكس تماماً لمجرياتها.

بين التجاهل والإصغاء كان صوتها يغزو مسامعي! أشعر أحياناً بأنه صوت فتاة جميلة، أو صوت فتاة صغيرة، أو حتى صوت رجل طاعن في السن. كثيراً ما كنت أستمع لتردد أنفاسها والجهد والتعب الذي كان واضحاً عليها. هكذا كنت أشعر وما زلت لا أعرف كنه الأمر، ولم أدرك حقيقته، هل هي فتاة صغيرة أم رجل كبير؟ أم ساحر عجيب يتقن تنوع الحالات قبل الأصوات. يتلون ويتنوع على مبتغاه وعلى النغمات السردية للحدث.

على رغم هذه الحيرة إلا أنه صوت جميل ومفعم بالمشاعر على كل حال. أشعر أحياناً بأنها فتاة وجليسة أحد ما. في هذا اليوم كانت تغيم وتخيم على صوتها نبرات متتالية، وكأنه قلب مستهام يغلبه الحنين، لم أحسن تمييزه، فقد شعرت بأمر ما يجثم على صدري! لا أعلم من أين وصلني. تضحكني تارة وتبكيني تارة أخرى. هذا ما شعرت به آنذاك. حسمت أمري ودفعت نافذتي بقوة، وما أن انفتحت على مصراعيها حتى أخذت نفساً عميقاً بعد تردده في صدري. تمردت عيناي على طباعي وأبحرتا تتمعنان في السخاء حول جمال الواقع، فما رأيت سوى فرس طليق اليد وطليق اللسان، طليق الوجه بشوش وضاحك. سرحت بأفكاري بعيداً، أنا وفنجاني، أسندنا ظهرينا للحائط نستمع إلى ذاك السرد دون تمرد، ودون أن نطبق أجفاننا.

تقول في سردها:
بما أننا نتصادف مع ثلاثية ضوء القمر للموسيقار الألماني بيتهوفن: «اكتمال القمر ومصباح يرتعد والستارة التي يتسلل منها ضوء القمر»! إذن علي أن أقص عليك قصة «ضوء القمر».

يقول الموسيقار بيتهوفن:
في إحدى لياليّ الشتوية الباردة، وفي أحد الشوارع الضيقة لمدينة بون الجميلة، كنت أمشي برفقة أحد الأصدقاء، وأثناء جدلنا تسلل إلى مسامعي عزف أعرفه جيداً، توقفت وأنا استرق النظر والسمع: من أين هذا الصوت ؟ وفجأة إذا بي أمام منزل صغير، خرجت من صدري صرخة لم أشعر بها: ما هذا الصوت! إنه أحد أناشيدي! وأثناء إنصاتي للعازف ما لبث الصوت أن انقطع. سمعت صوتاً خافتاً يقول:

«ليس في استطاعتي أن أواصل العزف، فهذه الأنغام في غاية الإبداع، وإني لا أقدر على أن أوفيها حقها، وليتني أستطيع الذهاب إلى كولونيا وأسمع جوقات الموسيقيين فيها»، ثم أسمع الجواب الآتي: يا شقيقتي لماذا تولد فينا الحسرات ؟! إننا بالجهد الشاق نحصل على ما ندفع به أجرة المنزل. ردت عليه شقيقته: إنك محق، ولكنني أتمنى أن أسمع موسيقى حسنة حقيقية، ولو مرة واحدة في حياتي. ولكن ما فائدة هذا التمني؟ 

قال بيتهوفن لصديقة: «لندخل، إنها ذات عواطف وموهبة وإدراك، سأعزف لها لأنها تفهمني، ثم دفع الباب ودخل، فوجد شاباً جالساً بجانب منضدة يصلح الأحذية، وفتاة منحنية بكآبة على بيانو من طراز قديم».

قال: «إنني كنت مارّاً بالقرب من هذا البيت فسمعت موسيقى فحدثتني نفسي أن أدخل، فأنا رجل موسيقي، وبما أنك تتمنين أن تسمعي، هل تريدين أن أعزف لك؟».

فقال له أخوها: «شكراً لك، ولكن البيانو في حالة يرثى لها. لاحظ بيتهوفن أن البنت عمياء. سألها: أين كنت تسمعين الموسيقى ما دمت لا تزورين الأندية الموسيقية؟».

فأجابت: «لقد قضينا سنتين في بلدة بروهل، وكانت بجوارنا سيدة تتمرن على العزف، وكانت في ليالي الصيف تدع نوافذها مفتوحة، فكنت أتمشى على الطريق ذهاباً وإياباً مصغية إليها. جلس بيتهوفن بجانب البيانو. تصاعدت الأنغام السحرية في الهواء بامتدادٍ وإيقاعٍ متوازنين إلى أن ارتجف لهب المصباح الوحيد في الغرفة، وانطفأ، وكانت ستارة النافذة قد فتحت وأفسحت مجالاً لدخول نور القمر المتألق، فقالوا له: يا لك من رجلٍ عجيب.. من أنت ومن تكون؟!».

أنت بيتهوفن؟
بدأ بيتهوفن بمعزوفة في ضوء القمر، واندفع بنغمات تسلب الفؤاد، هبطت من البيانو القديم كما يهبط سيل أشعة القمر على الأرض، وبعدها توجه إلى الباب وقال: 
أستودعكم الله.
فصاح الشاب والفتاة: هل ستعود إلينا؟
قال لهم: نعم سأعود وألقن هذه الفتاة بعض الدروس!
لحظة تأمل:
«أتقن لحن الحياة لتعزف مقطوعة خالدة».