لسقراط فلسفة ومقولة جميلة حول الحياة يقول فيها: «لقد منحنا الله أذنين اثنتين وعينين اثنتين، ولساناً واحداً، وفي ذلك دلالة على ضرورة أن نستمع ونرى أكثر مما نتكلم».
وهنا أتفق معه بشدة، ففي طبيعة الحال ليس من الضرورة أن يكون صوتنا مسموعاً دائماً، ففي كثير من الأحيان لا يكون لجدالنا أي معنى، وصوتنا كذلك، فمن الحكمة أن نعالج قضايانا بتمهل ولا نسهب في حديث أو كلام لا طائل لنا من ورائه، ونتوسع في جدال غير مسموع، فمن الأجدر أن نأخذ نفساً عميقاً ويا حبذا لو أنصتنا للمتحدث وإن كنا لا نتفق معه، فمن ذوقيات الحديث أن نبتعد عن الجدال وكأننا في حلبة سباق نتسابق ونتنافس لنيل شرف المتحدث الرسمي في قاعة صماء لا يسمع فيها سوى صوتنا.
من أهم أساسيات البلاغة العربية، وفنون الخطابة التي تعلمناها من آبائنا وأجدادنا، بلاغة وفصاحة لسان المتحدث، وحسن بيانه، فمن الحكمة أن يتعطش الجميع لسماع وجهة نظرك ويطلبها منك، فمن تأنى نال ما تمنى، وهذه الحكمة تقينا من الوقوع في بعض الأخطاء مما يضفي عمقاً على نقاش المرء، ويلبسه جلباب الوقار، ويصبح للجدال معه قيمة، ولصوته أيضاً. فهذه سمات أصحاب العقول الراجحة المنيرة الذين يبهرونك ببراعة أسلوبهم، ورقي جدالهم، حيث يشعرونك أحياناً وكأن لهم لسان شاعر مخضرم، يعجبك حديثه ويسحرك سرده العذب. لهم صوت في الجدال ذو وقع في القلوب وكذلك الأذهان، يستحيل معه أن تتجاهلهم الأعين أو تغفل عنهم الآذان، وكأنهم إبداع فارس مد يده بعنان فرسه ليبعده عن محيط لا يليق به. أشعر أحياناً بأنهم كذلك النجم الذي يتوسط السماء، فنراه من بعيد، ولكن إن مددنا أيدينا مراراً وتكراراً فسنجده صعب المنال، إن لم نتحل بالسمات نفسها التي تسمو به. فهذا المضمار له مقام واحد وفارس واحد ألا وهو «الحكمة».
والحال أن الحكمة هي أعلى مراتب الرقي، وأوسعها في درجة الفهم، فالحكيم تام القدرة وغزير الرحمة، يضع الأشياء في مواضعها ومنازلها اللائقة بها تماماً، فلا يتوجه عن رصانته ورزانته سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال.
عندما نتأمل لساعات طويلة في مواطن الحكمة في شخصياتنا أو في مواقفنا، فقد نرى أننا وصلنا إلى أرقام قياسية، لم يصلها أحد قط، ويشعرنا ذلك وكأننا في مضمار سباق قفز الحواجز، نجتازها ونتخطاها وتشق علينا أنفسنا أحياناً، ونحملها ما لا طاقة لها به، إذ نشعرها أن هذا المضمار خصص لها، وهذه الأسوار، التي تشبه السياج، ميدانها، وقد يكون الواقع عكس ذلك تماماً.
ولكن، هل هو ميدانها فعلاً؟ عشرون حاجزاً؟ أم عشرة حواجز، أيهما؟ لا نعلم. ما نعلمه فقط، في هذه الحالة، أننا وضعنا أنفسنا في اضطرابات لا تحتمل، وأن أنفاسنا تهدر، وعندها نتوقف للحظات ونتأمل حقيقة أننا لسنا عدائين، ولا يتوجب علينا اجتياز كل هذه الحواجز وهذه المسافات، التي لم تخصص لنا أصلاً، ولم يكن المضمار مضمارنا، من الأساس.
لحظة تأمل.. هل نحن حقاً في سباق؟ هون عليك.. فهذه هي الحياة محطات سارها أجدادك، سر على خطاهم، فستصل إلى هدفك، وسترى نجاحاتك كما رأوا نجاحاتهم، وشقوا لنا طريقة النجاح. وعندها توقف عند أعلى قمة، وخذ نفساً عميقاً، وافتح عينيك، فالنجاحات لا ترى بعين مغلقة.