في عالم اليوم، كما في عالم الأمس، وفي عوالم السنين التي خلت، شهدنا ولا نزال نشهد شتى أنواع الاشتباكات في هذا المكان أو ذاك من العالم، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط الحبلى بأزمات مزمنة، اشتباكات جوهرها ذو طابع سياسي، رغم أنها تقدم نفسها بغطاء فكري عقائدي. اشتباكات لا يتورع من يقف وراءها عن إلباسها بزة عسكرية حين تكون هناك فرصة تسمح بذلك.

تنتهي هذه الاشتباكات عادة ومن دون أي استثناء بجلسات مفاوضات في حضور مباشر لأطرافها أو عبر وسطاء لتتمخض عن اتفاقات على إحلال السلم أو الاتفاق على هدنة مؤقتة تسمح باندلاعها من جديد. وقد تمخضت هذه المفاوضات على مدى أمد طويل عن الاتفاق على قواعد للحرب عرفت بمسمى «قواعد الاشتباك».

نحن ندين بما تلتزم به الأطراف المتحاربة من سلوكيات تخفف إلى حد ما من معاناة غير المتحاربين ووضع قواعد لممارسة العنف وتحديد سقف «الآدمية» في ممارسة لعبة الموت إلى قائمة طويلة من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي استندت إلى أسس إنسانية وأخلاقية تأتي على رأسها اتفاقيات جنيف الثالثة لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية التي تقع في صلب القانون الدولي الإنساني، اتفاقية تجاوزت في حيثياتها ما نصت عليه اتفاقيات سبقتها في الأعوام 1864 و1906 و1929 والتي اكتفت بشمول بنودها الأطراف المتحاربة إلى الاهتمام أيضاً بتنظيم معاملة أسرى الحرب والمدنيين والجرحى والمرضى والوحدات الطبية وذوي الشارات المميزة إعلامياً، حيث قتل العديد منهم في سياق العمليات العسكرية، وقتل البعض منهم بطرائق أخرى لا تتفق مع احترام قواعد الاشتباك.

ورد مصطلح «قواعد الاشتباك» للمرة الأولى في منتصف خمسينيات القرن المنصرم إبان اشتعال أوار الحرب الباردة، حيث كانت ويلات الحرب العالمية الثانية تلقي بظلالها الكئيبة وترسم صور أهوال ما حدث في مدن آمنة مثل هيروشيما وناكازاكي.

يرد هذا المصطلح عادة في الأدبيات العسكرية، ويعني ما تلتزم بها القوات المسلحة عند استعمال القوة في خضم العمليات العسكرية التي تضطلع بها في المسارح التي تخوضها دولياً أو إقليمياً أو محلياً، سواء في النزاعات المسلحة أم مهمات حفظ السلام. أما حلف الناتو فيعرف هذه القواعد بأنها «إيعازات تصدر من جهة عسكرية مأذونة ترسم الظروف والحدود التي يسمح فيها للقوات المسلحة بالشروع في الاشتباك أو مواصلته».

لم يتوفر من له صلة بإدارة الاشتباكات أو من له مصلحة في استثمار بعض مخرجاتها وسيلة إلا واستخدمها، فقد بدأنا نشهد حضوراً لمؤسسات قضائية دولية في صراعات إقليمية بل وفي صراعات محلية، حضور عنصر اشتباك من نوع خاص يضيف المزيد من التعقيد إلى المعادلات السياسية الدولية المعقدة أصلاً.

والحقيقة أن دخول القضاء إلى ما هو أبعد كثيراً عن بوابات المحاكم قد فتح الباب لأول مرة لتداول سيرة الكبار من رؤساء الدول في وسائل الإعلام كمطلوبين للعدالة، أمر غير مألوف في الأعراف السياسية والدبلوماسية.

تلتزم الجيوش المتحاربة بالاتفاقيات الدولية المشار إليها، وخلافاً لذلك تتعرض دولها لمساءلات تضر كثيراً بمصالحها، غير أن هناك عالماً آخر من الحروب لا ترتدي الفصائل المحاربة فيه البزة العسكرية المعروفة، فصائل تخوض حروباً دائمة في أزمان السلم والحرب هي الأكثر أهمية في ضمان الأمن القومي لبلدانها، وهي أجهزة المخابرات التي لها قواعد اشتباك من نوع خاص لا تستبعد فيه استخدام أية ممارسة، التصفيات الجسدية بشتى الطرائق ليس غريباً عن قواميسها.

من جانب آخر هناك جهات سياسية تعمد إلى تشكيل فصائل مسلحة وتلتحف بشرعية قانونية تفرضها على مؤسساتها وعلى شعوبها، كما هو الحال في عدد من دول الشرق الأوسط والشمال الأفريقي. لهذه الفصائل أو الميليشيات قواعد اشتباك مغايرة لما للجيوش من قواعد رغم أنها من الناحية الشكلية تحمل مسمى القوات التي لها غطاء شرعي. هذه الجهات تسبب حرجاً لدولها أمام الرأي العام الدولي، وهي في أغلب الأحيان لا تحظى بتعاطف شعوبها لأنها مصدر تهديد لأمنها.

هذه الميليشيات لا تخل بقواعد الاشتباك السياسي الذي يرسم ملامح الاشتباك العسكري فحسب، بل تخل بقدرات الدولة على ممارسة مهامها، فهي بحكم وجودها غير الشرعي «شعبياً» تصطدم بالمدنيين الذين أصبحوا من جملة من تستهدفهم بفرض سيطرتها ونفوذها. هذه الميليشيات في أغلب الحالات تستند إلى ذراع أجنبية تفرض قواعد لعبتها في ساحات الآخرين.