العنوان بشقيه يثير التساؤل حول ما هو مشترك وما هو متعارض في أبعادهما، مما يتطلب بعض التوضيح، الأمر لا يتعلق بما يمارس سياسياً من قبل أفراد أو حركات أو أحزاب بل بما يمارس من قبل الدول. ما نقصده بالشق الأول هو مقاربة الدول للأحداث، محلياً وإقليمياً ودولياً، بمواقف لا تتعارض مع ما تتطلبه مصالح شعوبها وبالقدر الذي لا يخل بمعايير، سياسية ودبلوماسية وأخلاقية ومجتمعية، اعتادت الدول على الالتزام بها أو الادعاء بذلك، وهو ما يفسر الشق الثاني.

هناك بالتأكيد علاقة وثيقة بين السياسات المتبناة من قبل الدول وبين منظومة القيم التي تنتهجها في توظيف هذه السياسات، ولست بصدد الخوض في تفاصيل السجالات الطويلة التي حصلت في الماضي والتي لا يزال صداها يتردد في المحافل الأكاديمية حول مَن يرسم ملامح مَن.

نشر في السنوات الأخيرة العديد من الدراسات حول ظاهرة صعود الأيديولوجيات المتطرفة وبشكل خاص أيديولوجية أقصى اليمين في الدول الغربية التي تمثل تهديداً للديمقراطية الليبرالية الملتزم بها من قبل الأحزاب الحاكمة في الغرب أوروبياً وأمريكياً.

تقليدياً اتصف أقصى اليمين وفق الرؤى الغربية بالعنصرية ومعاداة السامية والاستبدادية في ممارساته، إلا أنه مر بعمليات تحديث شأنه شأن غيره من الحركات السياسية وأصبح بلون مختلف بعض الشيء، فاليميني المتطرف الذي كان يوظف بشرته البيضاء وشعره الأشقر في طروحاته أصبح أكثر تعقيداً وصارت مقارباته أكثر مقبولية عن ذي قبل حين بدأ يوظف المتاعب الاقتصادية والأمنية التي تمر بها بلاده بالسياسات المتبعة إزاء الهجرة دون أن يخل بجوهر معتقده.. فالأزمات السياسية والاقتصادية المزمنة التي يشهدها العالم منذ عقود ساعدت اليميني المتطرف عن قناعة والشعبوي المنخرط عن عفوية أن يجد له سكناً في العديد من دول الغرب لأسباب معينة وفي بعض دول الشرق الأوسط لأسباب أخرى.

ردود الفعل للتصدي لهذه الظاهرة لم ترقَ إلى مستوى ما شهدناه إزاء صعود حركات اليسار إبان حقبة الحرب الباردة، الاسترضاء هو ما اختاره الساسة الغربيون لمواجهتها مقابل الإقصاء الذي أشهروه بوجه اليسار، وهو ما يعزز ما يراه اليسار من دور الانتماء الطبقي في إصدار أحكام هؤلاء على هؤلاء.

ظاهرة الصعود السياسي لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا لم تحظَ بما تستحق من اهتمام على الرغم من مجهولية مآلاتها على السلم المجتمعي في ضوء ما نشهده من صراعات محلية هنا وهناك وما نخشاه على مستوى إقليمي من تشنجات توشك بالانفجار مما يطال السلم العالمي.

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة أن أجندة الدول ووزارات خارجياتها لم تكن عبر التاريخ وإلى يومنا الحالي وحدها من يرسم معالم السياسة الدولية، لما وجدنا صعوبة في التوصل إلى أن ظاهرة صعود اليمين السياسي ليست بالحدث العفوي العابر، وليس لنا في ضوء ذلك أن نطمئن إلى إمكانية بقائها وبقاء تداعياتها تحت السيطرة، فمن يكمن وراءها ليست هذه الدولة أو تلك كما يذهب البعض إلى ذلك، بل منظمات لا تنتمي لأية دولة وإنما تنتمي لمنظومة نخب معينة تهدف إلى رسم ملامح عالم يتفق مع ما تراه.

التداخل بين الإرادات السياسية وبين أساليب وضعها وتسويقها يعزز ما يعتمل في دواخلنا من قلق حول مستقبل إنسانيتنا إذ لم تعد منظومة القيم تعمل كحاجز بوجه السياسات المتطرفة فقد فقدت الكوابح الأخلاقية الكثير من القوة التي كانت لها في الماضي، وهو مما يضعف من فرص بقاء قيمنا الأخلاقية بل أمننا نفسه بمنجاة من المد السياسي اليميني الذي من غير المستبعد أن تكون مآلاته صدامات مسلحة عبر تشديد أتون الفرقة وتعزيز وتيرة البغضاء بين الشعوب.

وفي الوقت الذي تشتد فيه أوزار أخطر الحروب منذ نهاية الحرب الباردة وهي الحرب في أوكرانيا، تتراجع الرهانات حول مآلات السلم والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط في ضوء ما تشتعل فيها من أزمات، وتنخفض في ضوء ذلك سقوف التفاؤلات بعالم أفضل إثر انتهاء الحرب الباردة، فقد أصبحت أقصى الأمنيات بقاء الحال على ما هو دون الانحدار إلى ما هو أسوأ، ما يثير أقصى درجات الإحباط حول عجز الإنسان على رؤية ما للسلم وقيمه من دور في ازدهار الحياة بعد كل تجارب العنف التي شهدها وعانى من ويلاتها عبر التاريخ.