الحرب وسيلة من وسائل السياسة، ولكل حرب قواعد تحكمها وأهداف تحققها، لكن الحرب الدائرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، غابت عنها السياسة، وتخلت عن كل القواعد، وفقدت معظم أهدافها، واختطفت الإقليم والمنطقة إلى منعطفات خطيرة، واستنزاف قاس بلا أفق، وأوقات مستقطعة من زمن استقرار الإقليم، وحسابات مركبة ورهانات خاسرة، فهذه المرة لم تأت النتائج على هوى المعطيات، بدأت الحرب في اتجاه ومسار، وسرعان ما تعددت اتجاهاتها ومساراتها، وفتحت شهية التدخلات الإقليمية والدولية. لكل حرب أمراء، وأثرياء، ولا شك أن أمراء الحرب يظهرون على سطح الأحداث منذ أكثر من عشرة أشهر، أما الأثرياء فيتمثلون في شركات السلاح العابرة.
قلت إن هذه الحرب تحديداً، كان يراد بها أن تكون خاطفة، لكنها طالت بسبب عدم دقة الحسابات، وبصراحة أكثر لم تكن هناك أهداف كبرى، بل صفقات صغيرة، ولا نريد هنا أن نخوض في الخطاب الإعلامي بين الطرفين عن سبب اندلاع الحرب، فقد كان ممكناً ألا تقع مثل هذه الحرب، لكن أطرافاً إقليمية ودولية، كانت لديها مصلحة في إشعال الشرق الأوسط، بدءاً من الأراضي الفلسطينية، وهي المسرح المناسب لتنفيذ المخططات وتوصيات المختبرات الإقليمية والدولية.
مدمنو الحرب، وجدوا الفرصة في هذا الصراع، أعادوا ترتيب مطامعهم، لعبوا بمقدرات الخرائط، ظنوا أنهم يعيدون رسمها من جديد، أرادوا تعطيل أفكار، كانت تتردد في أفق المنطقة، لم يدرك أحد منهم أنهم زرعوا قنابل موقوتة، وهم لا يعلمون في أي توقيت يمكن أن تنفجر هذه القنابل، باتت الصواريخ والمسيرات لغة الحوار وأوراقاً للمناورة.
حروب هذا الزمان اختلفت تماماً عن قواعد أية حروب سابقة، فأطراف هذه الحروب ليست السلطات الحاكمة فقط، إنما تتعدد رؤوسها القيادية، وصارت كالأخطبوط الذي يملك أذرعاً عدة ومختلفة، وقد تتشابك الخيوط ولا نعرف، حقاً من ضد من، لكن الثابت الوحيد هو شعوب المنطقة الذين باتوا ضحايا في حاضرهم ومستقبلهم، وأضحت أوطانهم تحت حصار كل القوى العالمية التي أفرغت مخازنها من السلاح، ونقلته إلى تخوم وقلب المنطقة، ومن المعروف - بالطبع - أن السلاح عندما يخرج من المخازن لن يعود إلى حالته الأولى، وبالتالي فإن رائحة البارود تلف خرائط المنطقة، وكأن مستقبلها أصبح مرهوناً للذين خططوا لحروب عابرة وسريعة، وإذ بها تخون تقديراتهم وتتحول إلى صراع يتسع يوماً بعد الآخر، وتخرج الأفاعي عن طوع مروضيها، وبقدر اتساع رقعة الحرب، بقدر اتساع حلم ومصالح أطرافها الذين غرقوا في نشوة الحرب بحثاً عن مكانة، أو استعادة مكانة، أو فرض مكانة جديدة.
إن هذه الحرب التي تدور في الأصل في ميدان صغير، كما يتبدى من مساحة غزة التي تبلغ 365 كيلومتر مربع، فإن دخانها غطى سماء كل القوى العالمية، والإقليمية، وأكاد أقول إن الاصطدام جرى ويجري بين هذه القوى تحت هذا الدخان الكثيف، فلا أحد يعلم إلى أي طريق ستنتهي به هذه الحرب، التي جعلت الإقليم في حالة هشاشة، ولم تفلح أدوية المجتمع الدولي، بكل أطيافه ومنظماته وهيئاته الدولية في وأد أخطار مدمني الحرب، بل بات الجميع يترقب، بين عشية وضحاها، مفاجآت وأخطاراً ونذراً لحرب أكثر اتساعاً، قد تقودها أطرافها إلى حرب عالمية ثالثة، وقد تقود العالم للإقامة داخل نفق مظلم، وهي حرب لا يمكن قياسها بالحربين العظميين الأولى والثانية، إذن، وسط هذه الزلازل التي تهدد الخرائط، ووسط الهلع الذي يطارد المنطقة، فإنني أقول: ارفعوا أيديكم عن المنطقة، فهي لن تستقر والأيادي تضغط على الزناد، لا سيما أن العناد السياسي أصبح يحرك بيادق الحرب على رقعة الشطرنج.