شهد الأسبوع المنصرم تحركات مصرية مهمة للغاية على المستوى الإقليمي، يصح وصفها بالاستراتيجية الكبرى. وتوزعت هذه التحركات بين التوجه نحو الجنوب الشرقي لمصر، حيث الصومال والقرن الإفريقي، وبين الشمال الشرقي حيث تركيا، وبين الشرق حيث الحدود المباشرة بين مصر وقطاع غزة.
ففي اليوم قبل الأخير لشهر أغسطس حطت طائرتا نقل عسكريتان مصريتان في أراضي الصومال، الشقيق العربي في جامعة الدول العربية، محملتان بقوات عسكرية ومعدات وعتاد، للمرة الأولى منذ أكثر من أربعين عاماً. وأتت هذه الخطوة العملية بعد أسبوعين فقط من زيارة الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، للقاهرة، وحضوره ومضيفه الرئيس عبد الفتاح السيسي مراسم توقيع وزيري دفاع البلدين بروتوكولاً للتعاون العسكري بين البلدين، وذلك في أعقاب مباحثات معمقة جرت بين الرئيسين قبلها، ومؤتمر صحفي حافل، أعلنا فيه هذا الخبر المهم.
وفي اليوم الرابع من الشهر الجديد «سبتمبر» وصل الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة في زيارة هي الأولى له لتركيا، منذ توليه الحكم في مصر قبل عشر سنوات، وبعد زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لمصر في شهر فبراير الماضي، لينتهي بهذا عقد كامل من العلاقات شديدة التوتر بين البلدين على كل الصعد تقريباً، بدءاً من إطاحة الشعب المصري بحكم جماعة الإخوان لمصر في ثورة 30 يونيو العظيمة، والتي انحازت لها القوات المسلحة، بقيادة وزير الدفاع آنذاك الفريق أول عبد الفتاح السيسي.
وفي اليوم الخامس من نفس الشهر تفقد الفريق أحمد خليفة، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، وبرفقته عدد من كبار قادتها، وبصورة مفاجئة وغير متوقعة، إجراءات التأمين على الاتجاه الاستراتيجي الشمالي الشرقي، بدءاً من المرور على القوات المكلفة بتأمين معبر رفح البري بين مصر وقطاع غزة، وكذلك الحدود المصرية معه. وأكد رئيس أركان حرب الجيش المصري أن المهمة الرئيسية لهذا الجيش هي الحفاظ على حدود الدولة على كافة الاتجاهات الاستراتيجية، وأن رجال القوات المسلحة المصرية قادرون على الدفاع عن حدود الوطن جيلاً بعد جيل.
أتت هذه التحركات المصرية الثلاثة في أقل من أسبوع، لتعكس وبصور مختلفة، بعضها واضح الدلالات، والبعض يستوجب مزيداً من التأمل والتدقيق والتحليل، لكي تؤكد أن مصر قررت في ظل الأوضاع الإقليمية المحيطة بها من اتجاهاتها الاستراتيجية الأربعة، والمتسمة عموماً ما بين السخونة الشديدة والاشتعال شبه الكامل، أن تكثف وبصور نوعية مختلفة من تحركاتها الاستراتيجية الكبرى، فقد خيمت على المنطقة كلها، بل وربما العالم كله، خلال الأحد عشر شهراً الأخيرة أجواء التصعيد الخطير، التي خلقتها الحرب الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة، وهي التي وصلت خلال الفترة الأخيرة إلى الاتهامات الكاذبة، التي وجهها لمصر في أكثر من حديث له، رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو، في محاولات واضحة لاستفزازها وتعطيل جهود وساطتها من أجل اتفاق لوقف القتال، والإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، بالتعاون مع قطر والولايات المتحدة، وبدت بذلك جلية ناصعة الرسائل، التي حملها تفقد رئيس أركان حرب الجيش المصري للحدود المصرية مع غزة، لكل من يهمه الأمر، وبالطبع إسرائيل في المقدمة، والقوى الدولية الأخرى الحريصة على عدم تصعيد وتوسيع الصراع إقليمياً، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ولم يخرج وصول القوات والمعدات العسكرية المصرية إلى الصومال تطبيقاً لبروتوكول التعاون العسكري بين البلدين، عن توجه مصري واضح ومعلن، من ناحية لمساعدة هذا البلد الشقيق على حفظ استقراره الداخلي ووحدة أراضيه، ضمن بعثة الدعم التابعة للاتحاد الإفريقي، والتي ستبدأ عملها منذ يناير 2025، ومن ناحية ثانية المشاركة معه في حفظ أمن مضيق باب المندب، والذي يعد أحد أهم سبل حفظ أمن قناة السويس المصرية.
وكذلك فقد كانت زيارة الرئيس المصري لتركيا هي التحرك الاستراتيجي الأهم في الإغلاق النهائي للخلافات بين البلدين، وبناء علاقات استراتيجية بينهما على كل الصعد، والبدء في بناء «وحدة موقف» بين البلدين الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وشرق المتوسط، بما ينعكس إيجابياً على عديد من قضاياها ونقاطها المشتعلة، سواء كانت في ليبيا أو سوريا أو الصومال أو السودان، فضلاً عن قدرة موحدة أكبر على دعم الشعب الفلسطيني، وإيقاف التصعيد، الذي يمكن أن يصل إليه الإقليم بسبب الحرب الإسرائيلية الدموية على غزة.