لم يشهد الإقليم قلاقل ومخاوف مثل تلك التي يشهدها الآن.

كل الاشتباكات وتداخل الحسابات تقول إن القلاقل ستظل قائمة على خرائط المنطقة، ما لم يتم العلاج الصحيح والدقيق للقضية التي تمثل عصب الاستقرار في الشرق الأوسط؛ أعني القضية الفلسطينية، فكل ما يحدث هو صدى لغياب إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

الأوضاع اللبنانية الحالية جعلت اليمين الإسرائيلي المتطرف يندفع إلى المسرح اللبناني بالاغتيال والقتل والتدمير، انطلاقاً من رسائل عدة تريد إسرائيل إيصالها في هذا التوقيت.

أولى هذه الرسائل تتمثل في رسم صورة الدولة القوية القادرة على عبور حدود الدول الأخرى، القادرة على الاشتباك في أكثر من جبهة، في محاولة لإلهاء الرأي العام العالمي، بعيداً عن جرائمها ومجازرها في قطاع غزة.

أما الرسالة الثانية، فهي الهروب من الاستحقاق بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، وتصوير نفسها في محيط من العداء والكراهية يوجب عليها الهجوم وليس الدفاع، وتوصيل رسالة إلى نحو 150 ألف إسرائيلي نزحوا من الشمال بأن حكومتهم قادرة على إعادة الأوضاع كما كانت عليه قبل الثامن من أكتوبر، في ظل ضغط هؤلاء على الحكومة الإسرائيلية بضرورة اتخاذ إجراء لإعادتهم إلى مناطقهم، قبل بدء الموسم الدراسي.

ثمة رسالة ثالثة تتعلق بمحاولات نتانياهو المستمرة للتغطية على فشله، الذي قارب على نحو عام - منذ بداية الحرب - في استعادة أسراه، أو تحقيق أهدافه بالتخلص من فصائل المقاومة وطرد سكان غزة والضفة الغربية إلى خارج أراضيهم.

تأتي الرسالة الرابعة لتؤكد أن نتانياهو يريد توسيع وإطالة أمد الحرب، لتأمين بقائه في السلطة أطول فترة ممكنة؛ لأنه يدرك جيداً أن اتهامات كثيرة تنتظره فور رحيله عن منصبه، وأنه بات عبئاً على الداخل الإسرائيلي، وعلى قادة الأجهزة الأمنية، ورجال الاقتصاد والأعمال، سيما بعد تراجع الاقتصاد الإسرائيلي، ووصوله إلى حالة الركود.

في الرسالة الخامسة، يظن نتانياهو أن إطالة أمد الحرب قد تكون لصالحه، خصوصاً في حالة عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فمن المعروف أن هناك تماهياً بين رؤية ترامب، ومخططات نتانياهو الهادفة إلى ضم أجزاء من الضفة الغربية لإسرائيل، وإنهاء حل الدولتين، وهو الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ومن ثم فإن شطب الدولة الفلسطينية لمصلحة إسرائيل يصب في رؤية نتانياهو.

أما الرسالة السادسة، فتتمحور بشكل مباشر حول اعتداءاته على جنوب لبنان، فهو يريد توصيل رسالة بأنه الأقوى في المنطقة، لتخويف شعوب الإقليم، في حين أنه في الواقع يعتمد اعتماداً كلياً على الولايات المتحدة، والحلفاء الغربيين، ولم يكن له أن يصمد في هذه الحرب إلا بدعم أمريكي مطلق.

فضلاً عن أن نتانياهو ربما يكون لديه تصور بأن الحرب على جنوب لبنان قد تجر قوى إقليمية في المنطقة لتتحول إلى حرب شاملة، وقد عبر عن ذلك بوضوح في خطابه أمام الكونغرس الأمريكي، في يونيو الماضي.

إذن، وسط كل هذه الرسائل والمخططات الإسرائيلية تجاه لبنان، أستطيع الوقوف أمام حقائق عدة تتعلق بالوضع اللبناني، في مقدمتها: الإرث التاريخي المأزوم الذي يحمله لبنان على ظهره طوال قرن، منذ استقلاله عن فرنسا عام 1946، فهذا الإرث كان مليئاً بالاختلاف الحاد الذي وصل إلى ما يشبه الحرب الأهلية عشية الاستقلال، وطوال الخمسينيات، كانت هناك أزمات حول استحقاقات طائفية عمن يستحق تمثيل الطوائف.

وتواصلت الأزمات حتى عام 1960، عندما قررت مؤسسة القمة العربية وضع المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني، ثم الحرب الأهلية عام 1975، التي استمرت حتى عام 1990.

لا يزال لبنان منذ ذلك التاريخ يعاني من الصراع والاختلاف حول هوية الدولة الوطنية، بل بات مطمعاً من إسرائيل، التي احتلت الجنوب عام 1978، واجتاحت العاصمة بيروت 1982، حتى خروجها من الجنوب عام 2000، ثم وقعت حرب يوليو 2006.

ومن قبل كان لبنان مسرحاً لإسرائيل لاغتيال القيادات الفلسطينية واللبنانية، على مدى سنوات طويلة، ولا تزال هذه السياسة تعمل بها إسرائيل حتى اللحظة. أخيراً أقول إن لبنان عبر أزمنة بعيدة، يدفع ثمن التاريخ والجغرافيا.