أيام قليلة وينصرم العام الأول في الحرب الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة، باعتبارها الحرب الأطول منذ ما تسميه إسرائيل «حرب الاستقلال» عام 1948. وخلال عام هو الأكثر قساوة وتوحشاً على الشعب الفلسطيني منذ نكبته الكبرى، ووقوع ما يزيد على 40 ألف ضحية و100 ألف جريح والتدمير شبه الشامل والكامل لقطاع غزة، لم تقم الحكومة الإسرائيلية أو جيشها حتى اليوم بإعلان «الانتصار» النهائي في هذه الحرب.
منذ الأيام الأولى لهذه الحرب تكررت مئات المرات أهدافها الثلاثة كما صاغها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو: القضاء التام على كل القدرات العسكرية لحركة «حماس» وفصائل المقاومة في غزة، واستعادة كل المحتجزين الإسرائيليين لدى «حماس» والفصائل في القطاع الأحياء منهم وجثث الأموات، وألا تكون غزة بعد انتهاء الحرب مكاناً لأي تهديد لإسرائيل بما في هذا إخراج حركة «حماس» نهائياً من معادلة حكمها وإدارتها. وبدون أي مبالغة أو انحياز في تحليل نتائج هذه الحرب الإسرائيلية الدموية مقارنة مع أهدافها، يتأكد بما لا يدع مجالاً للالتباس أن تحقيق هذه الأهداف، وبالتالي إعلان الانتصار الإسرائيلي، لم يقترب قط من الإنجاز.
فحقيقي أن عاماً من استخدام الجيش الإسرائيلي كل ترسانته الحديثة وفائقة التدمير من الأسلحة والذخائر، أن تصاب «حماس» وباقي فصائل المقاومة في قدراتها العسكرية سواء على مستوى التسليح أو القيادات والمقاتلين. ولكنه أيضاً حقيقي، أن استمرار المقاومة المسلحة في كافة أرجاء قطاع غزة للتواجد العسكري الكثيف والهائل به، وانتقالها من منطقة لأخرى، بدرجات مختلفة من الفعالية والتأثير، يؤكد أن هدف «القضاء التام على كل القدرات العسكرية» لـ«حماس» وباقي الفصائل، لم يتم الوصول إليه أبداً كما طرحته إسرائيل، حكومة وجيشاً.
كذلك، فمن الأكثر بداهة أن الهدف الثاني المرتبط باستعادة كل المحتجزين أحياءً وأمواتاً، لم يتحقق قط بعيداً عن صفقة التنازل الوحيدة التي تمت في نوفمبر من العام الماضي، ولم يصل الجيش الإسرائيلي سوى إلى بضعة أفراد قليلين منهم سواء من الأحياء أو الأموات. وأما الهدف الثالث، فأيضاً بديهي للغاية أنه بعيداً جداً عن التحقق العملي، فمازالت الحرب دائرة وتقترب من دخول عامها الثاني، وعدم تحقق الهدفين الأولين يؤكد تماماً أن أي حديث عن الهدف الثالث يكاد يكون من ضرب الخيال أو الوهم.
وقبل نهاية العام الأول من حرب إسرائيل الدموية على غزة، والتي لم تنته إلى أي معنى واضح أو يمكن الدفاع عنه للانتصار الإسرائيلي، أقدم نتانياهو على التصعيد الملفت للجميع في لبنان والذي تتداعى حلقاته بصورة خطيرة للغاية خلال الأسابيع الأخيرة. ولم يفعلها رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلا بعد أن أضافت حكومته هدفاً رابعاً لحربيها في غزة ولبنان، وهو إعادة كل سكان المستوطنات والبلدات الإسرائيليين إلى مناطقهم في الشمال، بعد أن هجرها عشرات الآلاف منهم في ظل الاشتباكات مع «حزب الله».
وهنا يصح بصورة منطقية التساؤل عن تعريف «الانتصار الإسرائيلي» في لبنان لدى حكومة نتانياهو وجيشه بعد كل هذا التصعيد شديد الخطورة. والأرجح أن الخلل الهيكلي والواضح في تعريف «انتصار إسرائيل» في غزة سوف يكون له نظير أكثر وضوحاً وبروزاً في حرب إسرائيل في الشمال. فمن الجلي لكل مراقب أو محلل أو صانع قرار أن هذا الهدف الرابع لن يمكن تحقيقه في ظل حالة حرب تتصاعد نذرها وتتسع دوائرها الجغرافية بداخل إسرائيل، بما يفضي ربما إلى عكسه تماماً، وهو زيادة عدد النازحين الإسرائيليين ليس فقط من بلدات ومستوطنات الشمال بل وأيضاً من مناطق وسط إسرائيل. ويبقى احتمال واحد لتحقيق هذا الهدف الرابع، وهو أقرب للخيال أيضاً، وهو القضاء التام عسكرياً على كل قوة «حزب الله» بما يوقف نهائياً أي قدرة له على الهجوم على مناطق شمال إسرائيل.
إن المشابهة بين وضع الأهداف الإسرائيلية في غزة بما يحدد تعريف «الانتصار الإسرائيلي»، وهدف الحرب في شمال إسرائيل، يشير إلى مصير هذا التعريف الإسرائيلي تجاه لبنان. فكلا التعريفين أوسع من القدرة والواقع والمتغيرات الجديدة التي تشهدها منطقتنا، بما سيفضي على الأرجح إلى أن تطول الحربان وتختلطا استنزافاً، بما يجعل «الانتصار الإسرائيلي» أقرب للشعار منه للحقيقة التي يمكن تلمس ملامحها على أرض الواقع... وتظل المنطقة في حالة فوضى.