خاض الأديب المصري الدكتور، زكي مبارك «1892-1952»، معارك أدبية متعددة اتصفت بالشدة والعنف، كان صلب العود، وقوي العارضة، يخوض الملاحم الأدبية بشجاعته، ونزاهته المشهودتين، ولعل من أبرز ملامح معاركه الفكرية أنه كان يقودها بمزيج من طابع السخرية اللاذعة والفكاهة الحلوة والاعتداد بالنفس، مزيج من الطابع العاطفي المنفرد.
كان الدكتور زكي مبارك عارم الرغبة في البوح بمكنون وجدانه دون محاباة أو مواربة، ويتسم حديثه بطابع الخشونة والجفوة والاقتحام، وقد أحاط نفسه بضروب من العداوات والمناورات، وإن لم يكن يأبه بها، إذ بسط كل ما يحوك في صدره، ونفض عنه ما يثقله، فصفا قلبه، وسلمت طويته، وسهل عليه أن يصافح في اليوم التالي من هاجمه، صادقاً في مودته. ولا شك في أن لكل مجال محاسن وعيوباً، والأدب ليس استثناء من ذلك، فكما قد يكون ضرباً من الإصلاح قد يكون أيضاً نوعاً من الوصف، وهو وثيقة تسجل فيها مظاهر الحياة الإنسانية، وقد يصير أيضاً دستوراً، تخضع له الحياة الاجتماعية.
وكما يقول الأستاذ صالح جودت عن زكي مبارك، فهو الكاتب الذي تتعادل فيه روح الوفاء مع روح البحث، وتتجمعان معاً كباقة من زهور يضعها الأستاذ محمد محمود رضوان على قبره، فينتشر عبيرها في صدور الأجيال.
ومن معارك الحياة التي تقودنا إلى حكمة إلهية بعيداً جداً عن تدخل الإنسان، تسقط الأمطار على الجبال، فيجري ماؤها إلى الجهات المنحدرة سيلاً عارماً مكوناً تيارات مختلفة، منها السريعة، ومنها البطيئة، بحسب مقدار الانحدار، ولا يزال هذا المجرى ينمو ويتوزع في أنهار ثم بحيرات، وهكذا، حتى يكون مصباً عميقاً، ثم يتوقف.
وهناك أيضاً تيارات يجري ماؤها دائماً دون توقف، فيتتابع في جهات، وحلقات متصلة مكونة سيولاً في جهات مختلفة، وينابيع مستمرة تثلج في فصول، وتمطر في فصول أخرى، لا ينقطع مجراها، وتخترق البحار في طريقها فتغنيها، والمحيطات فتزيدها.
وكثيراً ما تعترض مجراها رواسب وصخور قد تختلف باختلاف ارتفاعها، واختلاف مواقعها، بين الجنادل والشلالات، إذ لا توقفها، حيث تنحدر عنها بقوة هائلة، لتكون تيارات بحرية عنيفة منها الطبيعية، ومنها أيضاً غير ذلك. والجميل أنها قد تتبخر في مواطن، وتنساب في مواطن أخرى، أو تنحدر من الجنادل باردة، وتتجمد في مواطن أخرى، في معادلة غريبة بين سيول وأمطار وجليد ورطوبة، ولكن لا تجف في كل الأحوال، فتبقى السيول والمياه جارية.
كل له مقدار ومقياس معين لا يتجاوزه، ولا ينقص دونه، دورة حياة كاملة، فلولا تبخر مياه البحار لما هطلت الأمطار، ولولا علماؤنا المؤسسون الأوائل لما وصلنا إلى ما نحن عليه، إذ ما زلنا اليوم وغداً ننهل من مراجعهم، ونتعلم من نجاحاتهم، ونتجنب إخفاقاتهم، عبر مكاتيب بعثت عبر حمام زاجل وكأنه بريد يومي نستقبله، ونأخذ ما تحت جناحه.
لحظة تأمل..
من منا يحمل بين جناحيه بريداً يخشى أن يذرع به السماء، أو يحلق به في أجواء الفضاء، أو يشق عباب السماء، يدفع ويقاوم بأجنحته سرعة التيارات الهوائية، التي تحرك كتل السحاب القوية، يقبض ويبسط جناحيه بين ارتفاع وهبوط فوق أمواج المحيط واليابسة في ارتفاع شاهق، يضرب بجناحيه تيارات متعددة، تختلف باختلاف بقاعها الحارة منها والباردة. يضم جناحيه على صدره ويفردهما، يخشى أن تنزلق بزوايا لا مفر له منها بين أجنحة وبريد متناثر في الجانب الأمامي من الجناح.
نأخذ من السيول قوتها، ومن الأفكار نزاهتها.
يقول الدكتور زكي مبارك:
«أنا لا أرى الحياة إلا في حومة القتال، وليس الأدب عندي مزاحاً ألتهي به في الأسمار والأحاديث، وإنما هو عراك في ميادين الفكر والخيال».