كثيرون هم الذين يكتبون عن أمّهاتهم، ونادرون هم الذين يخترقون قلوبنا حين يكتبون عن الأمّ، وعلى كثرة ما قرأتُ في هذا الموضوع إلا أنّني وبكلّ صدقٍ وشفافية ما شعرتُ بعمق التأثّر كما شعرتُ به حين قرأتُ ما كتبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في سيرته الذاتية المبدعة (قصتي: 50 قصة في خمسين عامًا) .
حيث خصّص ثلاث مقالات متتالية بعنوان «لطيفة» كتب فيها من أعماق قلبه عن علاقته بوالدته طيّبة الذكرى المغفور لها الشيخة لطيفة بنت حمدان آل نهيان، رحمها الله، شيخة دبي، والسيدة العظيمة التي نقشت اسمها بأحرفٍ من نور وعطاءٍ في قلوبِ جميع من عرفها أو سمع بسيرتها العاطرة، فقد كانت إنسانةً مملوءةَ القلبِ بالرّحمة.
وافرةَ الحظّ من الحكمة، لم تصرفها مكانتها الاجتماعية العالية عن دور الأمّ والزوجة الفاضلة التي ترعى حقوق زوجها، وتقدّم لأبنائها أفضل ما يمكن أن تقدّمه أمٌّ لفلذات أكبادها، وكم كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد عظيمَ القلب وباهرَ البِرّ والوفاء حين رسم هذه اللوحة الإنسانية الرائعة لشخصيّة والدته التي كان لها أعمق التأثير في بناء شخصيته الفريدة ولا سيّما في بُعدها الإنساني وصقل مواهبه، وتربيته على الإحساس العميق بالمسؤولية والواجب، فنشأ في كنف والدَين كانا هما المدرسة الكبرى في تشكيل شخصيته وشخصية أشقّائه الصِّيد المغاوير.
معنى عميق
وبمناسبة يوم الأمّ لهذا العام في هذا الشهر المبارك، نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تغريدة على حسابه في مواقع التواصل الاجتماعي في غاية اللطف والرهافة احتفى فيها بالمعنى العميق للأمّ، وأنّها ليست كائنًا من لحمٍ ودمٍ بل هي رمز الإنسانية والحب والعطاء، واستعاد فيها بعض الأصداء المدهشة التي كتبها في سيرته الذاتية عن والدته الكريمة رحمها الله، حين ختم المقالة الأولى بكلمات تقطر رقّة وعذوبة، حيث قال بعد أن وصف حجم اهتمام والدته بإعداد طعامه: «هكذا هي الأم: لا تشبع حتى ترانا نأكل، ولا ترتاح إلا بعد أن ننام، ولا تفرح إلا إذا زالت عنا الأحزان» ثم ختم هذه الكلمات البديعة ببيتين من الشعر يقول فيهما:
مهما الليالي تدور
حبّك ترى في الصدور
إنت يا بدر البدور
لك كلّ حب وشعور
«الأمّ هي الوطن الأوّل، والحبّ الأوّل، والمدرسة الأولى، والحُبُّ الأبدي الذي لا يموت» بهذه الكلمات النابعة من قلب شاعرٍ يعرف وزن الكلمات يفتتح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هذه التغريدة المكثّفة التي كتبها احتفاء بهذه المناسبة الجليلة في حياة البشر.
حيث جمع بين ثلاثة أشياء هي في حقيقتها الجوهر العميق للحياة والوجود الإنساني، فالوطن هو مأوى الروح وملاذ الجسد، والمكان الذي نعشقه ولا نطيق الابتعاد عنه مهما تغيّرت الظروف، والحُبُّ هو العاطفة الأجمل داخل حزمة العواطف الإنسانية.
ومن يمنحنا الحُبّ هو بالتأكيد أعظم الناس فضلاً علينا، والمدرسة هي المكان الأوّل الذي تتفتح فيها طاقة الوعي وتباشير العقل، وما قيمة الحياة حين نفقد نور العقل، فإذا كانت الأمّ هي التجسيد الحقيقي لهذه المعاني الثلاثة فهي التي تستحق الحبّ الأبدي، لأنّ الأمّ هي الحياة، وبحسب عبارة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في كلمته عن والدته رحمها الله: «من لم يذق حبّ الأم وحنانها، لم يذق طعم الحياة» فالأمّ بهذا المعنى هي الحياة.
«كلّ إنجازاتنا في حياتنا هي جزءٌ من تضحيات أمّهاتنا» وإذا كان ما سبق من كلام صاحب السمو يتعلّق بالجانب العاطفي من النظرة إلى الأم ودورها العظيم في بناء الروح الإنسانية السويّة المبدعة، فإنّ هذا الكلمات الرائعة تؤكِّد على دور الأمّ في صنع الرجولة والشخصيات القادرة على تحمّل المسؤولية، فالأمّ هي التي تبني في أولادها عمق الحسّ بالمسؤولية، وهي التي تدفعهم نحو تحقيق الإنجازات الكبرى في الحياة، فإليها يعود الفضل في كلّ ما نحقّقه من الإنجازات ونحن نخوض معركة الإعمار والبناء في مسيرة الوطن والإنسان.
كلمات رقيقة
«كلّ عام والأمّهات بخير، كلّ عام والأمّهات أغلى كنز وأعظم نعمة، كلّ عام والأمّهات أجمل ما في الحياة وأفضل ما في الحياة» وبهذه الكلمات الرقيقة يختتم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هذه التغريدة الجميلة مقدّمًا أصدق مشاعر التهنئة لجميع الأمّهات في جميع المواقع والمستويات، فالأمّ جوهر أكبر من أي إطار، وهي الكنز الأثمن في هذه الحياة، وهي النّعمة العظمى على هذا الوجود، وهي الأجمل والأفضل من كلّ أشياء هذه الحياة.
حين تُوفّيت الشيخة لطيفة بنت حمدان عام 1983م، كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هو فارس الدولة ووزير دفاعها، ولكنه حين قصّ تلك اللحظات الموجعة بعد رحيلها وتسجيتها في قبرها كان يذرف الدمع مثل أيّ طفل يفقد أمّه مهما كان كبيرًا.
ومن منا سينسى ذلك الموقف الإنساني المفعم بالصدق حين بكى صاحب السمو على ذكرى والدته حين تُليت سيرتها العاطرة في واحدٍ من احتفالات دبي التي تحتفي بالخير والجمال والإنسان، وصاحب السمو هو واحدٌ من أصحاب القلوب الكبيرة التي تفيض بالحُبّ والوفاء والرَّحمة ليظلّ نموذجًا مُلهِمًا وقائدًا عزّ نظيره بين الرجال.