حوار السيف والرقبة

إسرائيل هي إسرائيل لا تتغير منذ نشأتها، قانونها الاغتيال وقاموسها الدمار وطريقها الأطماع بلا حدود، تقوم على مفهوم عجيب هو مفهوم السيف والرقبة.

في حوار يعود إلى عام 1970، بين الكاتب الفلسطيني الشهير غسان كنفاني، والصحفي الأسترالي ريتشارد كارلتون، أجاب كنفاني رداً على سؤال الأسترالي: لماذا لا تدخل منظماتكم في محادثات سلام مع الإسرائيليين، ولماذا لا تتحدثون معهم؟ قائلاً: أنت تقصد محادثات استسلام، هذا نوع من الحديث، بين السيف والرقبة.

مضى نحو 54 عاماً على هذه المقابلة النادرة، وهذه المقولة التاريخية لكنفاني، لكنها أصبحت الآن واقعاً مريراً، فما تشهده خرائط المنطقة، هو حوار بالفعل بين السيف والرقبة. السيف هو بشاعة الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكياً وغربياً بوضوح، ويتغذى على أفكار ونظريات قديمة وراسخة، سطرها آباء الصهيونية، مثل جابوتنسكي، أستاذ بنيامين نتنياهو، الذي يتغذى على أفكاره، ويعيد إنتاجها على أرض الواقع.

تلك الأفكار التي تقوم على السيف وحده، لتنفيذ مخططات توسعية على حساب أراضي الإقليم العربي، فمعروف أن جابوتنسكي، ومن بعده ديفيد بن جوريون، كان يؤمن ببناء حائط حديدي بين اليهود، وغيرهم من الأقوام، بعد أن يكون قد حاورهم بالسيف البتار.

إذا كانت هذه هي نظرية السيف، فإن الرقبة ليست بهذه الليونة ليتم قطعها، الآن وبعد مضي ما يزيد على نصف قرن، على مقولة كنفاني، أستطيع القول إنه بات من المستحيل أن تسود فكرة حوار السيف والرقبة، فلغة السيف التي تتحدث بها إسرائيل، لن تكون قادرة على كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وشعوب المنطقة.

وإذا كان لابد من حوار بين أصحاب الحق الفلسطيني، وبين الاحتلال، فلابد أن يكون متعادلاً ومتساوياً، وعلى نفس القدر، ولا جدوى من فلسفة السيف التي تحاول إسرائيل تنفيذها على أرض الواقع، فخلال أكثر من عام، وتحديداً منذ السابع من أكتوبر عام 2023، جربت إسرائيل تنفيذ هذه الفلسفة، وفشلت فشلاً ذريعاً، ودخلت في حالة استنزاف وجودي غير مسبوق منذ نشأتها عام 1948، وكشفت عن هشاشة دبلوماسية وأخلاقية، وصلت إلى حد اتهامها - رسمياً - بجريمة الإبادة الجماعية، وملاحقة قادتها بنيامين نتنياهو، ويوآف جالانت، بالقضاء الدولي.

وفي السياق نفسه كشفت أيضاً فلسفة السيف عن قوة وصمود الرقبة الفلسطينية، واللبنانية الآن، فهذه الرقبة ثابتة وراسخة، وغير قابلة للقطع، فمهما طال أمد الحرب، وتأخرت عودة الحقوق إلى أصحابها، فلا يمكن لدولة صغيرة أن تقود خريطة واسعة وكبيرة وضاربة الجذور.

إن المعنى الكبير للسيف والرقبة، هو ضرورة الخروج إلى الشاطئ الحقيقي، بإقامة دولة فلسطينية تملك مصيرها وقرارها على حدود الرابع من يونيو عام 1967، ولدى العرب مبادرة شاملة، عبر تكوين تحالف دولي من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

وهذا سيحدث مهما تكن العقبات، خصوصاً بعد اعتراف 149 دولة عالمية بعضوية فلسطين في الأمم المتحدة، وبعد توالي الاعترافات بالدولة الفلسطينية من قبل دول كبرى على المسرح الدولي، خصوصاً أن هناك دولاً عالمية، بدأت الانضمام إلى جنوب أفريقيا، في مسألة معاقبة إسرائيل في محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية.

إن استمرار نظرية وفلسفة الحوار الإسرائيلي بالسيف، إنما هي فلسفة بائسة وفاشلة، وستفضي بالدولة الإسرائيلية نفسها، إلى الخطر الوجودي الذي يحذر منه نتنياهو، وهو الذي جلب لإسرائيل هذا الخطر بسياساته المنطلقة من السيف وحده، وهو الذي - لا شك - سيعاني من انفضاض الحلفاء عنه، فهناك الكواليس التي دارت في الخفاء بينه وبين الرئيس الأمريكي جو بايدن.

وكشف عنها الصحفي الأمريكي بوب ودورد في كتابه الجديد الذي يحمل عنوان: «الحرب»، إذ كشف فيه عن مراوغات نتنياهو مع بايدن، وذهول الأخير من كم الأكاذيب التي تفوه بها نتنياهو، وكم الوعود التي ارتد عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي، وكم الأعباء التي صارت تحملها الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، جراء الأفعال الجنونية لحليفها الإسرائيلي.

إن روايات بوب ودورد ليست بعيدة عن الحقيقة، فها هي نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة، تقول: إن أمريكا تدعو إلى حل الدولتين، وإقامة السلام، لكنه ليس مع نتنياهو.

إذن، المعنى أضحى واضحاً حتى للحلفاء الذين يقاتلون نيابة عن إسرائيل، لكن التاريخ له كلمة أخرى، ربما تقود نتنياهو إلى القفز في الخلاء.

رئيس تحرير الأهرام العربي