عندما تم اغتيال الدولة الوطنية

تداعيات الصراعات التي يشهدها الإقليم الآن تؤكد أنه يحتاج إلى استراحة محارب. فالإقليم بات يدفع فواتير حروب المنطق واللا منطق معاً.
الصراعات تجاوزت كل الأعراف والقوانين الدولية.

صراعات تخترق أجواء سيادية، وكأن الخرائط باتت رخوة من دون حقوق. خريف الاستقرار يطرق أبواب الإقليم. الوصفات المستوردة تهدف إلى الخلخلة في جدار الدولة الوطنية.

تقدم العراق بشكوى إلى الأمم المتحدة لإدانة استباحة أجوائه وسيادته، وتساءل العراق عن مصير الاتفاقية الأمنية الاستراتيجية الموقعة بين أمريكا والعراق، ويطالب بإعادة النظر فيها ما دامت تستخدمها أمريكا في مصالحها الخاصة وفي دعم حليفتها إسرائيل.

هنا ثمة سؤال يطرح نفسه، لماذا تتم استباحة أجواء الدول لضرب دول أخرى؟!

بوضوح نستطيع القطع بأنه عندما غابت الدولة الوطنية، بات كل شيء مباحاً، فعندما تم كسر واحد من أهم أعمدة خرائط المنطقة وهو العراق عام 2003، بعد الغزو الأمريكي له، فتحت الأبواب أمام تكرار هذا النموذج الذي استهدف الدولة الوطنية الشاملة بمفهومها المعروف الذي يتضمن أرضاً، وشعباً وسلطة، وبالتالي كان العراق أرض التجربة.

كما قال چورچ بوش الابن، إن العراق أصبح منصة لإطلاق الديمقراطية في المنطقة العربية، ويعني بها ديمقراطية الفوضى الخلاقة، وقد تم اعتماد هذه النظرية داخل مختبرات الإعداد والتجهيز، كما يسمى بالربيع العربي عام 2011، الذي قاده الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، صاحب فلسفة إفراغ الدول من مضامينها المؤسساتية.

إن أختام الفوضى والتخريب التي تجولت داخل عواصم عربية عدة، بدءاً من العراق وحتى اللحظة، إنما هي استراتيجية سياسية تقوم على تخريب المجتمعات وتمزيق الخرائط، وإزالة الحدود، لتنفيذ مخططات قديمة متجددة بأدوات متجددة أيضاً، بدءاً من اللجوء إلى الغزو العسكري المباشر.

مروراً بصناعة التنظيمات الإرهابية، وتمكينها من مفاصل مؤسسات الدول، وصولاً إلى إشعال الثورات الملونة التي لا تزال آثارها بادية في معظم دول الإقليم العربي، وليس بعيداً عنها ما ترتكبه إسرائيل في أجواء وفضاءات عربية وغير عربية.

فأعمال إسرائيل إنما هي محطة من محطات فكرة وفلسفة تدمير الدولة الوطنية، فاستخدامها أجواء العراق، الدولة العربية المستقلة، يشبه تماماً ما ترتكبه في أجواء لبنان وسوريا وفلسطين، فهي تنتهك القانون الدولي بانتهاكها سيادة هذه الدول.

إن خلخلة مفهوم الدولة الوطنية، ترك جرحاً غائراً في جسد الإقليم، لم يستطع حتى اللحظة أن يتعافى منه بسهولة، فكلما حاول النهوض، باغتته ضربات أخرى جديدة بأدوات جديدة، وظل محاصراً بمخاوف السلام والاستقرار وغياب اليقين، والقوانين الدولية التي تمزقها إسرائيل وأمريكا على مدار الساعة.

إن التجربة الراهنة على مرمى خرائط الإقليم، تجعلنا نفكر ملياً وبعمق كيف يمكن الخروج من شبكة العناكب هذه؟ وكيف نستعيد هيبة الدولة الوطنية بمؤسساتها الصلبة واللينة لتحقيق الاستقرار والالتزام الاستراتيجي للمنطقة والإقليم؟

لا شك أن الاتزان الاستراتيجي لن يتأتى إلا بتمكين الدولة الوطنية من السيطرة على مقدراتها الوطنية، وعدم التلاعب، من أي قوى عالمية، بأمنها القومي وسيادتها الراسخة، وهذا يتطلب أفكاراً عربية جديدة تستفيد من قرن كامل.

وجد العرب فيه أنفسهم يخوضون حرباً تلو أخرى دون أن يكونوا صانعيها، فضلاً عن أهمية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967، كما نصت عن حق فتوى محكمة العدل الدولية بلاهاي، ومطالبة إسرائيلية بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال اثنى عشر شهراً.

إن كل الشواهد والتجارب تقول إن الشرق الأوسط سيظل يقيم داخل دوامات من عدم اليقين، ما دامت تغيب عن خرائطه مفاهيم الدولة الوطنية، ومن ثم فإن اللحظة الحالية تتطلب الاصطفاف العربي العروبي، والتفكير خارج الصندوق لمواجهة التحديات العالمية الكبرى، وحجز مقعد إقليمي، في نظام عالمي يعيد تشكيل ملامحه من جديد.

رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي