عندما نتحدث عن الأبواب التي طرقها النثر، لما كان النثر، والتي تعد أقل قيوداً من الشعر وأصبر على الشرح والتحليل وأقدر على التبسط والإسهاب والاستيعاب، كانت الأبواب والمواضيع التي طرقها ويطرقها النثر كثيرة جداً. وهي تكثر، ولا تزال تكثر وتتسع، عند الأمم كلما تطورت حياتها من البسيط إلى المركب، وتنوعت ورحبت أمامها آفاق السعي العقلي، وتقلبت عليها مواقف الحياة مع تشعب محاور العاطفة التي نبحر فيها وتتعدد وتتلون تفاصيل الحياة. جميع الأبواب أو المواضيع التي ألمّ بها النثر العربي، وإن كان كل هذا النثر أو جله بمقدار من جودة العبارة، يدخله حيز من الإبداع الذي يفوق العقل البشري. وأحد هذه الأبيات التي نطرق بابها ونتحدث عن بلاغتها اللغوية هي أبيات لأبي تمام في فتح عمورية منها قوله:
«مِـنْ عَـهْـدِ إِسْكَـنْـدَرٍ أَوْ قَـبـل ذَلِــكَ قَــدْ..
شَابَتْ نَواصِي اللَّيَالِي وهْيَ لَمْ تَشِبِ»
أبيات عميقة وتتكشف عن إحساس الشاعر الجمالي بالإنسان، وبمظاهر الحياة من حوله، وتوضح مدى إبداع الحس اللغوي، وارتفاع وارتقاء وجزالة الذوق اللغوي والفضاء الشعري العام. وفي مطلع هذه القصيدة العصماء يحسن الافتتاح بقوله:
«السَّـيْـفُ أَصْــدَقُ أَنْـبَــاءً مِـــنَ الـكُـتُـبِ
فِـي حَــدِّهِ الـحَـدُّ بَـيْـنَ الـجِـد واللَّـعِـبِ»
فحسّ الأخيلة اللغوية والفضاء الشعري لدى أبي تمام، يقتضيان الإحساس بدرجة من درجات الصدق قائمة في الكتب، فالقول، مثلاً، إن فلاناً أصدق من فلان، قد لا يعني في عمومه بالضرورة أن الأول صادق والآخر كاذب تماماً، بل قد يكون الثاني صادقاً أيضاً بدرجة معينة، ولكن يزيد عنه المفضل في تلك الدرجة من حيث إنه أصدق منه. وقد استدعى ذلك من أبي تمام الاستمرار في إثبات كذب الآخر «تُمثِّله الكتبُ» في مقابل صدق السيوف بصور كثيرة للتضاد تتضح في بنية القصيدة. ونراه خلال عوالم القصيدة ينوع، بصيغ مختلفة، في الصورة التفضيلية مرة أخرى.
وهكذا يتكشف لنا هذا التمثل القيمي لدى أبي تمام، وميزة هذا الشاعر الكبير وما يميز عوالمه الشعرية أنها ليست باليسيرة على الفهم من أول قراءة، بل إنها ذات طابع قوي مكتنز. وليس أبو تمام سريعاً إلى القلب والذوق فقد لا يكون في الأدب شاعر مثله يحتاج إلى طول صحبة وإعادة قراءة. لكن القارئ يحبه بعد أن يألفه، ويجد فيه من اللذة والمتعة ما يكافئه على هذا الحب. فقد كانت له خصائص مختلفة ومميزة، إذ كان كثيراً ما يستخدم المحسّنات البديعية اللفظية منها والمعنوية، ويكثر الاعتماد على التشبيهات والاستعارات والكنايات كأدوات الغرض منها والمقصود تجميل المعنى وسلوك طريق له جمالية في التعبير الشعري والتصوير البلاغي غير الطرق المباشرة.
ومن هنا أطلب إذن العبور من علمائنا القدماء، ومن كتابنا وشعرائنا، لنستخدم الإرث الجميل الذي تركوه في أيدينا حبراً من ورق يزن كنوز الأرض. وحقيقة لا يكفيني لسان أبي تمام ولا أسلوب البحتري ولا المتنبي ولا أصحاب المعلقات وجميع دواوين فحول الشعراء على مر التاريخ، ولا أي شكل من الأشكال الشعرية القديمة والمعاصرة، لكي أرتقي بملكاتي في التعبير للوصول إلى سمو وسموق مناقب وسجايا الشخصية العظيمة والقائد الفذ الذي أتشرّف بالكتابة عن إنجازاته الجليلة ومكارمه الجميلة.
فكل ما ذكرناه من قبل عن ملكات البلاغة وعوالمها ليس إلا إذن العبور لسرد جانب من سجايا ومكارم هذه الشخصية، ففي بيان كل ذلك الغاية والوجهة الوجيهة لكل كاتب حقيقي يستمد إبداعه من لغة الأفعال قبل الأقوال والإنجازات المشهودة الماثلة للعيان في كل مكان. فإذا كان ثمة معين لا ينضب ماؤه ولا تنفد مادته فهذا هو. لأن شعرية لغة الواقع أبلغ وأعمق وأصدق من شعرية اللغة والبديع القوافي. فكيف إن تطابقت لغة الواقع والشعر. وقديماً قال الشاعر:
«وَإِنَّ أَشعَرَ بَيتٍ أَنتَ قائِلُهُ
بَيتٌ يُقالَ إِذا أَنشَدتَهُ صَدَقا»
فلا الأدب وحده من شعر ورواية يكفي، بل تقصر ملكاته عن بلوغ القصد، حين يكون الكلام عن قائد فذ تسكن محبته وتوقيره وتقديره شغاف القلب، وتسبق في الاحتفاء والاحتفال بإنجازاته لغة الوجدان لغة اللسان. أكتب بكل اعتزاز وافتخار عن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله.
وتأخذني هذه المقدمة القصيرة في حق سموه الكريم إلى إحدى المقابلات التلفزيونية، حيث سئلت: قديماً كان يقال إن الشعر ديوان العرب، وفي هذا العصر صارت الرواية ديوان العرب.. ما موقفك من هذا التصنيف؟ هل ترين أن هذا هو عصر السرديات، وتراجع مكانة الشعر؟ أم أن تداخل الشعر والسرد، وانزياح الحدود بين الأجناس الأدبية هو السائد الآن، وخاصة مع تعاظم شعرية السرد، ونثرية الشعر؟!
مهلاً يا سادة، الشعر والسرد وكافة صور الإبداع هدفها يجب أن يكون واحداً، وهو الاحتفاء بالوطن وقيادته الرشيدة. وهذا هو معنى الالتزام في الأدب أي أدب، وفي الإبداع من حيث هو إبداع. وفي الحديث عن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، أستلهم إبداع كل الشعراء وافتنانهم بجمال وجلال وسمو المعاني، ودقة وصفهم وجمال تصويرهم وحلاوة معانيهم وخصب خيالهم، وأقرؤهم إذ يذكرون إنجازاته الماثلة للعيان، ويتغنون بما فيها من مكارم عظيمة وقيم كريمة، ويصورون جماليات إماراتنا وحضارتها وعمرانها وعلوّ وسموق بنيانها اليوم، وكل يوم.
الشعر والأدب وعالم الإبداع، يا سادة، قبل سيدي كان يتيماً، فألبسه سيد العروبة جلباب الوقار والحكمة بأزهى وأبهى ما عرفته عصور النهضة الأدبية التي شهدها التاريخ. فليشهد التاريخ اليوم هنا هذه النهضة الأدبية الفكرية العلمية الفريدة من نوعها. إنها استعادة لأمجاد حضارة عربية خالدة تدرّس آثارها ومآثرها عبر التاريخ.
إنجازات حضارية أبهرت العالم بأسره حققتها خطط وخطوات سيدي، خطوات رزينة موزونة، وخطط وسياسات حكيمة تلهم الأذهان والقلوب والعقول بعمقها السياسي والاقتصادي والإنساني، مما كان له أثر كبير في نفوس عدد كبير من الشعوب القريبة والبعيدة، وألهم المفكرين والعلماء والزعماء، فمنهم من أرخ لهذه الحضارة، ومنهم من سعى لنقلها والاستلهام منها، ومنهم من اختصر الطريق واختار أن يتفيّأ ظلها الوارف.
لقد حباه الله صفة إنسانية وكاريزما زعامة سكنت قلوب الشعوب، وألهمت القادة بما فيها من سعة أفق وعمق نظر في السياسة والعلم والاقتصاد، ومسائل الحياة بجميع تفاصيلها، والقيم ورسالتها الإنسانية والروحية الرفيعة. وقد تجلى هذا الأثر وهوت إليه النفوس وانجذبت إليه قلوب الأمم أجمع بأدبائها وعلمائها ومفكريها وزعمائها، والساعين لنشر قيم الحق والخير والجمال في كل مكان وزمان.
هنا على هذه الأرض الطيبة، بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، نؤمن بأن هذه الأرض وهذا القائد الملهم ستبقى منارة لسمو الروح وجمال النفس وقيم الخير والعطاء والنماء. وستبقى منارة للسمو الروحي والعمل الإنساني الذي اتصفت به الإمارات على الدوام وكرّسته ورسّخته مبادئها الإنسانية، وامتدت منها أيادي العطاء والوفاء تنشر الخير والتعايش والتسامح في كل زمان ومكان.
هذه هي رسالة الإمارات إلى العالم.. رسالة بناء ونماء وعطاء وإخاء ووفاء وتعاون وتضامن وأخوة إنسانية تجمع العقول وتلهم القلوب.