استحقت دراسة سلوك المستهلكين والمستثمرين ومحاولة فهم توجهاتهم وتفضيلاتهم جائزة نوبل للاقتصاد، التي اقتنصها هذا العام الأميركي ريتشارد ثالر لنجاحه في الربط ما بين علم النفس والاقتصاد في ما يُعرف الآن اصطلاحاً بـ«الاقتصاد السلوكي».
وتكمن قيمة وأهمية الدراسات التي كللت جهود ثالر بأرفع جائزة عالمية، في كونها تكشف أسباب ولع البعض بالتسوق، وتفضيل قطاع من المستهلكين العلامات التجارية (الماركات) باهظة الثمن حتى في حال توفر نفس المنتج بأسعار أقل وجودة أفضل ولكن من ماركة أقل شهرة، إذ تخلص واحدة من دراساته إلى أن بعض الصفات البشرية مثل افتقاد الحد المطلوب من العقلانية وتطلع بعض الطبقات الاجتماعية إلى الظهور بشكل يفوق حقيقة وضعهم المالي تؤثر بشكل منهجي على القرارات الفردية للمستهلكين وبالتالي تؤثر أيضاً في توجهات السوق بشكل عام، ومثل هذه الأمور حيّرت لسنوات خبراء التسويق الذين أعياهم البحث في سلوكيات الزبائن وتفضيلاتهم.
وربما تفسر نظرية الاقتصاد السلوكي التي ابتكرها ثالر عدداً من الظواهر التي نلاحظها في أسواقنا المحلية، ومنها لجوء البعض للاستدانة بغرض التسوق أو السفر أو الظهور بمظهر اجتماعي يفوق وضعه المالي.
وتجيب دراسات ثالر على العديد من التساؤلات التي كانت محل حيرة من جانب المعنيين، سواء لدى التسوق في السوبر ماركت أو استثمار المليارات في الأسواق المالية، إذ إنه ابتكر أيضاً نظرية «المحاسبة الذهنية» التي تشرح كيف يقوم الأفراد بتبسيط عملية اتخاذ القرارات على الصعيد المالي بإقامة خانات منفصلة الواحدة عن الأخرى في أذهانهم، ثم التركيز على وطأة كل قرار فردي عوضاً عن التركيز على التأثير الإجمالي، مُحذّراً من إمكانية أن يوقعهم ذلك في أخطاء أو يكبّدهم خسائر على المديين المتوسط والطويل.
وربما يمكن الجهات المعنية الاستفادة من نظرية التحفيز التي ابتكرها ثالر لمعالجة ما اكتشفه من ظواهر سلبية في سلوك المستثمرين والمتسوقين، إذ يمكن استخدام عمليات التحفيز للحد من السلوكيات الخاطئة مثل المضاربة العشوائية أو لتوجيه الفئات المستهدفة إلى اتخاذ قرارات معينة تعود بالنفع عليهم وعلى الأسواق في ما أصبح يُعرف بـ«الأبوية الليبرتارية»، وفيها يحتفظ الفرد بحرية التصرف غير أنه يتم تحفيزه لسلوك طريق معين عوضاً عن طريق آخر، وبما لا يتعارض في الوقت نفسه مع حرية السوق أو التوجهات الليبرالية في الاقتصاد.
وهناك تجارب دولية عدة في هذا المجال، إذ استلهم رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون هذه النظرية بهدف استخدام أموال دافعي الضرائب بشكل أفضل، كما تم تطبيق سياسة تهدف إلى تعديل سلوك البريطانيين في مجالات عدة تتراوح من الضرائب إلى مكافحة التدخين.
إن أسواقنا المحلية تحتاج إلى الاستفادة من مثل هذه النظريات العلمية الحديثة، وهي بلا شك سوف تفيد الجهات المعنية، حال رغبت في ذلك، في لجم ظواهر سلبية تظهر بين الحين والآخر في بعض قطاعات الاقتصاد الوطني.