من الورق إلى الوعي

في زمن تتسارع فيه التحوّلات، ويزداد فيه ضغط العولمة، يصبح الحفاظ على الهوية الوطنية والتراث الثقافي مسؤولية مشتركة بين جميع أفراد المجتمع. فالهوية ليست مجرد شعارات، بل سلوك يومي، وموروث يُحكى، ويتردد على مسامع الصغير والكبير، وقيم تُغرس بعمق في الأجيال القادمة، من خلال أدوات الحاضر ولغته. حين تُخزّن الذاكرة، وتُصاغ الهوية بلغة المستقبل، تصبح التكنولوجيا جسراً حياً يصل الماضي بالغد.

فالتكنولوجيا اليوم لم تعد مجرد أداة، بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من تفاصيل حياتنا اليومية، وهي الوسيلة التي تحفظ التراث وتحميه من الضياع، وتُشكّل مرجعاً أساسياً نعتمد عليه في تصميم المبادرات الوطنية، مثل الأرشيف الرقمي والمكتبات السمعية والبصرية، التي تُعد خطوة استراتيجية نحو توفير الذاكرة الجماعية للأجيال القادمة.

والذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي هما أدوات حديثة للترويج والتجربة؛ فالذكاء الاصطناعي يسهم في تحليل الوثائق التاريخية، وتوليد محتوى تفاعلي، بل وحتى إيجاد شخصيات معروفة تحاكي رواة التراث بأسلوب تعليمي مبتكر.

وأما الواقع الافتراضي، فيمكنه إعادة بناء الأسواق القديمة، والمجالس، أو القلاع التاريخية بطريقة تفاعلية مبدعة تُثير اهتمام الشباب والصغار. هذه الأدوات بحد ذاتها تسهم في تحويل التراث من مادة جامدة إلى تجربة حيّة وممتعة.

أما وسائل التواصل الاجتماعي، فبالرغم مما تحمله من مخاطر قد تؤدي إلى طمس القيم، إلا أنها باتت منصة ذهبية لنشر الوعي بالهوية الثقافية، إذا ما استُخدمت بشكل واعٍ ومسؤول.

ويمكن للمؤثرين في المجال الثقافي توظيف هذه المنصات لنشر القصص القصيرة والمقاطع الإبداعية، وتقديم التراث في قالب معاصر يُلامس الجيل الجديد بلغته وأدواته.

إذاً، لم تعد حماية التراث تعني صيانته من التآكل المادي فحسب، بل أيضاً من النسيان الرقمي. فحين يُقدَّم التراث عبر الذكاء الاصطناعي، وتُروى الحكايات بواقع افتراضي، وتُغرس القيم في منشورات يومية، نكون قد نقلنا هويتنا من الورق إلى الوعي.