أتابع اليوم ما بدأت به الجُمعة الماضية من ذكر قصص الرحّالة إلى البلدان عبر التاريخ، فقد نقلوا لنا ما رأوه وسمعوه بأسلوب شيّقٍ ومثير، وإنّ أمنيةً من أمنياتي أن أستطيع تأسيس موقع على الإنترنت يحضر لنا ذاكرة أصحاب الرحلات والتقارير والأخبار عن كل مدينة عربية وإسلامية لنتعرّف إلى أخبارها، وكيف تطورت عبر القرون. ومن أجمل هذه الرحلات العجيبة رحلة محمد بن عبدالله الطنجي المعروف بابن بطوطة (703 ــ 779هـ)، الذي جاب في 30 سنة العالم، وسجّل لنا قصصاً صادقة، ولكنها غريبة في نفس الوقت، وقد زار منطقة عُمان ونقل لنا قليلاً مما رأى، وسوف أنقل لكم بعضه باختصار، وعليكم مراجعة الباقي بأنفسكم.
يقول ابن بطوطة: »ركبنا البحر نريد عُمان في مركبٍ صغيرٍ لرجل يُعرف بعلي بن إدريس المصيري من أهل جزيرة مصيرة (إحدى جزر عمان). وفي الثاني لركوبنا نزلنا بمرسى حاسك (وبه ناس من العرب، صيادون للسمك، ساكنون هنالك، وعندهم شجر الكندر (اللبان)، وهو رقيق الورق. وإذا شرطت الورقة منه قطر منها ماء شبه اللبن، ثم عاد صمغاً. وذلك الصمغ هو اللبان، وهو كثير جداً هنالك. ولا معيشة لأهل ذلك المرسى إلا من صيد السمك، وسمكهم يعرف باللخم (بخاء معجم مفتوح)، وهو شبيه كلب البحر. يشرح ويقدد ويقتات به. وبيوتهم من عظام السمك، وسقفها من جلود الجمال«.
قلتُ: جزيرة »حاسك« في محافظة ظفار العمانية وتبعد عن صلالة 350 كيلومتراً، واللخم في لهجتنا جمعة لُخمةٍ، وهي معروفةٌ لدى عامية أهل هذه السواحل بأنها سمكةٌ مستديرة الشكل ولها إبرة سامة، أما أصحاب المعاجم فقد جعلوها من أنواع القرش، مما يجعلها بعيدة عن معناها لدينا، وقريبةً من كلام أهل اليمن، لأنّ هذا الاسم متداول لديهم إلى اليوم، فهم يسمون اللخم القرش الصغير، وتشتهر عند أهالي حضرموت «كبسة اللخم» اللذيذة، وابن بطوطة قطعاً لا يعني اللخم بلهجتنا، ولكنّ بلهجة أهل حضرموت.
ويتابع ابن بطوطة فيقول: »ثم وصلنا إلى مدينة (قلهات)، فأتيناها ونحن في جهد عظيم. فلما وصلنا باب المدينة قال لنا الموكّل بالباب: لا بدّ لك أن تذهب معي إلى أمير المدينة ليعرف قضيتك، ومن أين قدمت. فذهبت معه إليه، فرأيته فاضلاً حسن الأخلاق، وسألني عن حالي وأنزلني، وأقمت عنده ستة أيام.
ومدينة قلهات على الساحل، وهي حسنة الأسواق، ولها مسجد من أحسن المساجد. حيطانه بالقاشاني، وهو مرتفع، ينظر منه إلى البحر، والمرسى، وأكلت بهذه المدينة سمكاً لم آكل مثله في إقليم من الأقاليم، وكنت أفضّله على جميع اللحوم، فلا آكل سواه. وهم يشوونه على ورق الشجر، ويجعلونه على الأرز، ويأكلونه. والأرز يجلب إليهم من أرض الهند. وهم أهل تجارة، ومعيشتهم مما يأتي إليهم في البحر الهندي. وإذا وصل إليهم مركب فرحوا به أشد الفرح. وكلامهم ليس بالفصيح مع أنهم عرب. وكل كلمة يتكلمون بها يصلونها بلا. فيقولون مثلا: تأكل لا، تمشي لا، تفعل كذا لا».
قلتُ: لا يزال بعض أهالي سواحل الخليج العربي يتبعون كلامهم حرف «لا»، فيقولون: تلعب لا، بتاكل لا وهذا من البعد عن الفصاحة، ولا أراه حسناً في الكلام كما رآه ابن بطوطة، رحمه الله.