أعظم الفقد عندما تفقد من لا يشابه حبّه في صدرك حبّ أحدٍ من الناس إلا والديك، وأصعب الفراق عندما يفارقك من كنت تراه في حياتك كعينيك التي ترى بهما وهو عضيدك الذي لا تستغني عنه، ومستودع أسرارك التي لا يطلّع عليها أحد سواه، إنه أخوك ومن مثل أخيك يشاطرك العُمُر وتعيش معه ساعاته وأيامه بحلوها ومرّها، ولا يكنُّ لك إلا المودة والحبّ، خاصةً وأن العمر لايزال في أوله ومسيرة الحياة لم تزل في بداياتها، إنّ الفقد والفراق حينئذٍ سيكون قاسياً مؤلماً شديداً على عامة الناس فكيف إذا كان الفقيد هو الشيخ »راشد بن محمد آل مكتوم«، رحمه الله، وكيف إذا كان الأخ الفاقد هو »حمدان« الشاعر المرهف الإحساس النبيل الذي فاق كرمه وإحسانه حدود الوصف، حفظه الله، لا بدّ أن يكون الخطبُ عظيماً والرحيل تراجيدياً محزناً، وستكون مشاعره جياشةً تنسكب من فؤادٍ حزنه لا يشابهه حزنٌ مختلط بدموعِ الفراق الذي لا عودة منه.
انهمرت أحاسيس الشاعر الكبير المرهف »حمدان«، وبكت كل كلمة من مرثيته البليغة أخاه »راشد« التي جعلتني وأنا أسمعها أبكي ولا أقدر أن أكفكف دمعي على حبيب قلوبنا الذي فارقنا ونحن في أمس الحاجة إليه، ولا نملك إلا الدعاء له وطلب العفو والمغفرة في هذه الأيام المباركة، وقد استهل الأبيات بوصف أخيه سمو الشيخ »أحمد بن محمد آل مكتوم«، حفظه الله، فوصف تأثره الشديد لفراق أخيه الكبير فقال:
سالت دموع أحمد حفيد اللي لهم طيبٍ وجاهْ
قلت الدموع اترجم اللي مستحيل يترجمهْ
رأى »فزاع« دموع أخيه »أحمد« وهو الشيخ الكريم الطيّب والشاعر، فبدأ بها الرثاء تخليداً لهذه الدموع الكريمة التي هطلت على فقيد البلاد، ثم أتبعه بتذكيرنا أنّ »أحمد« حفيد الحكام أهل الطيب والجاه، فكأنه يقول: إنّ هذه الدموع الغالية التي ترونها في عيون الشيخ الكريم »أحمد« لا تكون إلا رحمةً على فراق رجلٍ عظيمٌ فراقه، وإنها أيضاً ترجمة لمشاعر خاصة لا يمكن أبداً أن يصفها أحد بكلامه وإن كان أفصح الناس، فكانت الدموع أفضل متحدّث في هذا المصاب الجلل، فهي رحمة في القلوب وليست ضعفاً في الأبدان، ثم أكمل شارحاً ومؤكداً لمعنى البيت الأول، وأنّ أحمد لن يعجزه وصف الموقف بشعره وهو الشاعر المتمكن الذي يروي أشعاره كبار رواة الشعر، ولكن المواقف الصعبة مثل هذه سيتعذر عليه من الحياء أن يسجلّها في وقت وقوعها بأشعاره، لأنها عظيمة جداً فكانت الدموع الغالية أكبر معبر عنه، يقول »فزاع«:
هاجوس شاعر لو تناقل شعره كبار الرواهْ
بعض المواقف يستحي عن وصفها حبر اقلمهْ
ثم انتقل شاعرنا »فزاع« لمخاطبة أخيه »أحمد«، وبدأ يبثه حزنه على فراق »راشد« بل حلف له بالله إنّ صدره قد امتلأ حزناً عليه ولا يستطيع كتمانه لأنه عظيم، وكأني وأنا أسمع الأبيات بصوته أرى غرغرة الدمع في عينيه تكاد تنساب، يقول حفظه الله وأبقاه:
والله يا أحمد لو تعرف الصدر هذا وش وراهْ
وراه حزنٍ لو بغيت أكتمه وشلون أكتمهْ
ثم ينتقل إلى ما جعل فؤادي يزيد حزناً على فقيدنا »راشد« الغالي، وإني لم أتمالك نفسي وأنا أسمعه وتذكرت رؤيتهما مع بعضهما في مواقف كثيرة حتى إنّ الشيخ »حمدان« كانت في يده فاكهة لم تطب له حتى قام وناول جزءاً منها أخاه الشيخ »راشد«، هلّت على قبره شآبيب الرحمة، يقول »فزّاع«:
حزني على راشد هو أغلى حزن وأنا من نباهْ
الطيب أوصيت العيون إنها بدمعي تكرمه
يتوقف أيها الأعزاء أي قلم عن تصوير أو شرح هذا الشعر البليغ الذي فيه كل هذا الحزن من شاعر العروبة والشباب »فزّاع« الذي وظّف كل كلمة من مرثيته لتجعلنا نعيش معه مشاعره كلها وبقوة، وتركنا نشعر بما يشعر به بكل اقتدار وتفنن، وهو يريد في الوقت نفسه أن يخفف عن أخيه هذا المصاب الكبير بهذه القصيدة العصماء.
هذا وللمقال بقية.