يقول الأديب الأميركي راي برادبري (ت:2012): »ليس عليك أن تحرق الكتب لتدمّر حضارةً، بل اجعل الناس تكفّ عن قراءتها وسيتم ذلك«، وهذه المقولة من أصدق الأقوال التي قرأتها في هذا الموضوع المهمّ حول الكتب لأنّ شعباً لا يقرأ فإنه لا محالة سيدمّر حضارته بيده كما حدث للحضارات القديمة التي دُمّرت وتفرقت وذهبت ريحها وكان من أهم أسباب دمار أهلها توقّفهم عن القراءة الذي أدى إلى توقف التأليف وضعفه فضعف بذلك العلم الذي هو مصدر القوة وماء حياة الحضارات واستمرارها، وإنّي أرى الكاتب الأميركي برادبري لم يبالغ في قوله هذا بل أصاب عين الحقيقة ومن مقولته الحكيمة أنطلق في مقال اليوم.
الكتاب هو وعاء العلم وحارسه وبه يُكتب للعلوم البقاء لآلاف السنين بعد رحيل أصحابها، والكتاب مصرف (بنك) المعلومات الذي يعطيك الفوائد في كل وقتٍ بلا كللٍ ولا مللٍ ولا يكلفك عناءً ولا يأخذ منك ربا مضاعفاً فهو خيرٌ كله لنا ولأهلنا أجمعين، والكتاب صديقٌ وفيّ مخلص لا يملّ وصالنا وإن ملّنا الإخوة والأصدقاء، والكتاب طاقة إيجابية كاملة يشعرك بالطمأنينة والسكينة والسعادة، والكتاب أعمارٌ كثيرةٌ تضاف إلى أعمارنا فكأنّ من يحافظ عليه عاش آلاف السنين وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمُره، كما فعلت بي الكتُب منذ صغري وشغفي بها معروفٌ بين أهلي وأصدقائي وأبناء المنطقة حتى أنّ والدي -حفظه الله- كان يمرّ بي فيقول عندما يرى تلال الكتب تحيط بي في غرفتي الصغيرة: »انتبه من الكتب لا تسقط عليك كما سقطت على الجاحظ« ثم يضحك وينصرف، وأقول: لم تسقط الكتب إلا في فكري فقد قرأت منها ما لا يُحصى وحفظت كثيراً منها ووعيتها والحمد لله رب العالمين.
هذا ولا يُعدّ اهتمامي بالكتاب واقتنائه وقراءته غريباً ولا بدعاً من الأمر عليّ ولا على كل المنشغلين بالكتاب في الوطن العربي بل هذا إرث أجدادنا الكرام الذين مهّدوا للحضارة الحديثة كل قواعدها العلمية، فالعرب منذ القدم عُرفوا بشغفهم بالكتُب وتفاخرهم بها كما يفتخر أحدهم بقصره وخيله وإبله، تقول المستشرقة الألمانية المنصفة »زيغريد هونكة« (ت1999): »لقد أقبل العرب على اقتناء الكتب إقبالاً منقطع النظير يشبه إلى حد كبير شغف الناس في عصرنا هذا باقتناء السيارات والثلاجات وأجهزة التلفاز بعد الدمار الذي أصابهم إبان الحرب العالمية فحرمهم طويلاً من مُتَع الحياة، فأصبحت الكتب للعرب هي مطلب كل من يستطيع تحمّل نفقات الحصول عليها وأقبل الناس في البلدان العربية على اقتنائها بلهفةٍ متزايدةٍ لم يعرف لها التاريخ من قبل مثيلاً«.
لقد أنصفت المستشرقة الألمانية »هونكه« العرب بهذا الكلمات في كتابها الشهير (شمس الله تسطع على الغرب) كما جاء في اللغة الألمانية أو كما اقترح المترجمون العرب فجعلوا عنوان كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب)، والمنصفون من المستشرقين قلّة لكنّ هذا الكتاب فيه إنصاف كثير وحجج دامغة تدل على فضل المسلمين على العالم في مجال العلوم، ولأنّه لا بقاء للعلوم بغير اهتمام بالكتاب فقد أفردت المؤلفة فصلاً بعنوان: »شغف العرب بالكتب« لأنه هذا الشغف هو الذي غيّر حياة أجدادنا وبنا لهم أمجاداً عظيمة وهي تغيّر أحوال أي أمة تريد الازدهار والإبهار الدولي.