كنت في صباي لا يكاد الكتاب يفارقني، أقرأه في كل مكان، من شغفي وولعي بِه، وكان بعض الأقارب من كبار السن إذا رأى الكتاب قال لي: هذا كتاب «الليف»، أي مصنوع من الليف - وهو قشر النخلة الذي يجاور السعف - وكنت أعجبُ من كلامهم هذا، وأحمله على محمل الاستخفاف والازدراء بي وباهتماماتي، وأنشد نفسي هذه الأبيات، التي كتبتها حينها، مصوراً الكتاب كأنه فاتنة جميلة لا مثيل لها، ومن فتنتها صيرتني خادماً لها لا أفارقها، وقد كتبت هذه القصيدة وأنا لم أتجاوز 17 سنة:

وإني لطلّابٌ لكلّ كريمةٍ

من الخود بكرٍ للمكارم تبذلُ

يهشّ فؤادي إن نظرتُ لوجهها

وتحفظُ ودي إنْ زللتُ فتكملُ

تركتُ لها أهلي وأصبحت تيمها

لعليَ أحظى بالذي كنتُ أأملُ

ولكنّي بعد مرور السنوات، فهمتُ معنى قولهم ووصفهم لأجمل شيء في وجودي، بكتاب الليف، لقد كانوا يعنون بأنك يا «جمال»، عليك أن تتنبه لنفسك وتكمل دراستك الأكاديمية، وتأخذ الشهادات العليا، لتعمل بها وتكوّن أسرة وأموالاً تغنيك عن الناس، ولا تلهينّك القراءة والكتب عن طلب الرزق الحلال، فكأنهم يَرَوْن في اقتناء الْكُتُب مصيبةً على أصحابها، لأنها لا تُسمن ولا تغني من جوع، بل قولهم كتاب الليف، ترجمة لقول الأدباء لمن يجدونه فقيراً: هذا قد أدركته حرفة الأدب! أي أنّ الأدب لا يؤكل (عيشاً) ولا يعيل أسرة.

قد أتفق مع هؤلاء في قولهم بأنّ المرء عليه أن يجتهد في إكمال دراسته الأكاديمية، ويجد له عملاً مناسباً يغنيه عن سؤال الناس يتكففهم، يعطيه هذا ويرده ذاك، ولكنّي لا أرضى أن يسمى الكتاب الذي هو وعاء العلوم ومخلّد العلماء، بأنّه كتاب الليف، بل هو يستأهل أن يُكتب، وكل كتاب، بماء الذهب، لو كان ماء الذهب يكفي لكتابة العلوم، والازدراء بالعلم وأهله والكتب، ليس من شيم أهل العلم، ولا طالبي المجد، بل هو من عادات من لا ذَنوب (نصيب) له من المعرفة.

بعد دخولنا العالم الرقمي بقوة، وتحويل كثير من الكتب إلى الكتب الرقمية، لا أدري ماذا سيقول أولئك النفر الذين كان يعيبون شغفي بالكتاب، بل ماذا سيصفون هذه الكتب، التي أصبحت في عالم الأرقام، وأصبحت تدر على أهلها مليارات الدولارات، ولم يعد بينها وبين الكتاب المطبوع أي صلة أو علاقة بالأشجار، وأيضاً ماذا سيعلقون على محب القراءة الصغير، الذي يجد متعة الحياة أن يعيش بين كتبه، بعد أن أعلن سيدي صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، حفظه الله، وأخوه سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، عام 2016 عاماً للقراءة، لحث الناس على الاهتمام بالكتاب، صغيرهم وكبيرهم، لأنه الرافد الأكبر للمعرفة، والذي يحافظ على تقدم الأمة وحضارتها، أظنّ أولئك الناس أدركوا اليوم أهميّة ما كنتُ أصنعه في صغري، وقد يكونون نادمين على سخريتهم مني ومن أهل الكتب.

يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور (ت 1860): «لا يعزّ عليّ سوى ترك مكتبتي الخاصة، فلولا الكتب في هذه الدنيا، لوقعت منذ زمن طويل فريسةً لليأس».