لا بد أن تكون تجربة أمريكا اللاتينية بمثابة تحذير واضح للمتحمسين للنظرية النقدية الحديثة، ففي مجموعة متنوعة من البلدان، وفي أوقات مختلفة تماماً، أسفر التوسع المالي الممول بواسطة طباعة النقود عن خسارة لا يمكن السيطرة عليها للاستقرار الاقتصادي.

وكثيراً ما تكون أفكار السياسة الاقتصادية خطيرة في التطبيق العملي بقدر ما هي معيبة من الناحية النظرية، وربما تكون النظرية النقدية الحديثة مثالاً واضحاً على ذلك.

أصبحت النظرية النقدية الحديثة، التي تشكل على ما يبدو نهجاً جديداً في التعامل مع السياسة الاقتصادية، موضوعاً ساخناً يكتسب زخمه من تقدميين كبار في الولايات المتحدة مثل المرشح الرئاسي بيرني ساندرز والنائبة الديمقراطية ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، ولكن ينبغي للمتحمسين للنظرية النقدية الحديثة أن ينتبهوا إلى الدروس المستفادة في أمريكا اللاتينية، حيث انتهت السياسات القائمة على أفكار مماثلة حتماً إلى كارثة اقتصادية.

يرى أنصار النظرية النقدية الحديثة أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يجب أن يطبع مبالغ ضخمة من النقود لتمويل مشاريع البنية الأساسية العامة الضخمة، جنباً إلى جنب مع برنامج «ضمان الوظائف» الذي يهدف إلى ضمان التشغيل الكامل للعمالة.

كما يزعم مؤيدو النظرية النقدية الحديثة أن الزيادة الكبيرة في ديون القطاع العام لا تمثل خطراً في دولة قادرة على الاقتراض بعملتها الخاصة، كما هي حال الولايات المتحدة.

كانت هذه النظرة غير التقليدية موضع انتقاد من قِبل أتباع جون ماينارد كينز وأنصار النظرية النقدية على حد سواء. ويقول العديد من الاقتصاديين الأكاديميين المحترمين، ومنهم بول كروجمان، وكينيث روجوف، ولاري سمرز، إن النظرية النقدية الحديثة تجافي المنطق والعقل.

رداً على هذا يزعم أنصار النظرية النقدية الحديثة أن منتقدي النظرية لا يفهمون بشكل كامل كيف يعمل الاقتصاد النقدي الحديث، وفقاً لبعض أنصار النظرية النقدية النافذين مثل ستيفاني كيلتون، فإن الحكومات في الدول التي تستخدم عملاتها الوطنية الخاصة، مثل الولايات المتحدة، لا تواجه قيوداً صارمة في ما يتصل بالميزانية لأنها قادرة ببساطة على طباعة المزيد من النقود لتمويل الإنفاق الأعلى.

الواقع أن تقييم مزايا النظرية النقدية الحديثة أمر صعب، لسببين، فبادئ ذي بدء، لم يقدم مؤيدوها وصفاً موحداً مفصلاً للكيفية التي ينبغي أن يعمل بها النموذج.

وكما كتب كروجمان مؤخراً، فإن مؤيدي النظرية النقدية الحديثة «يميلون إلى عدم الوضوح حول خلافاتهم مع وجهات النظر التقليدية على وجه التحديد، هذا فضلاً عن العادة القوية التي اكتسبوها والمتمثلة في رفض أية محاولة لفهم ما يقولون حقاً».

بالإضافة إلى هذا، لم يقدم مؤيدو النظرية النقدية الحديثة أي إشارة أو تلميح إلى الكيفية التي قد تعمل بها هذه السياسة في الممارسة العملية، وخاصة في الأمدين المتوسط والبعيد، بيد أن هذا النهج ليس

غير مسبوق، فقد أخضعت النظرية النقدية الحديثة، أو نسخة مماثلة لها، للتجربة في العديد من دول أمريكا اللاتينية، بما في ذلك تشيلي، والأرجنتين، والبرازيل، والإكوادور، ونيكاراغوا، وبيرو، وفنزويلا. وكل منها كانت تستخدم عملتها الخاصة في ذلك الوقت.

علاوة على ذلك، كانت حكومات هذه الدول ــ وجميعها تقريباً كانت شعبوية ــ تعتمد على حجج مماثلة لتلك التي يستخدمها أنصار النظرية النقدية الحديثة اليوم لتبرير الزيادات الضخمة في الإنفاق العام الممول من البنك المركزي، وانتهت كل هذه التجارب إلى التضخم الجامح، وانخفاض كبير في قيمة العملة، وانخفاض حاد في الأجور الحقيقية.

وكانت أربع وقائع مفيدة على وجه الخصوص: تشيلي أثناء حكم نظام الرئيس سلفادور أليندي الاشتراكي في الفترة من 1970 إلى 1973؛ وبيرو أثناء إدارة الرئيس ألان جارسيا الأولى (1985-1990)؛ والأرجنتين تحت رئاسة نستور كيرشنر وكريستينا فرنانديز دي كيرشنر في الفترة من 2003 إلى 2015؛ وفنزويلا منذ عام 1999 في عهد الرئيس هوجو شافيز ثم الرئيس نيكولاس مادورو.

في الحالات الأربع، ظهر نمط مماثل، فبعد أن طبعت السلطات النقود لتمويل عجز مالي ضخم للغاية، أعقب ذلك على الفور طفرة ازدهار اقتصادي، فارتفعت الأجور (بفضل ارتفاع كبير في الحد الأدنى للأجور) وتراجعت البطالة، ولكن سرعان ما ظهرت الاختناقات وارتفعت الأسعار إلى عنان السماء وفي بعض الحالات بمعدلات تضخم مفرطة، فقد بلغ التضخم 500% في تشيلي في عام 1973، ونحو 7000% في بيرو في عام 1990، ومن المتوقع أن يصل إلى ما يقرب من عشرة ملايين في المئة في فنزويلا هذا العام.

من ناحية أخرى، كان التضخم في الأرجنتين أقل وطأة لكنه ظل مرتفعاً للغاية، حيث بلغ 40% في المتوسط في عام 2015.

استجابت السلطات بفرض ضوابط الأسعار والأجور وسياسات الحماية الصارمة، لكن الضوابط لم تنجح، وانهار الناتج وتشغيل العمالة في نهاية المطاف.

الأسوأ من ذلك أن الأجور المعدلة تبعاً للتضخم، في ثلاثة من هذه البلدان الأربعة، هبطت بشكل حاد خلال تجربة أنماط مماثلة من النظرية النقدية الحديثة، ففي الفترات المذكورة، انخفضت الأجور الحقيقية بنحو 39% في شيلي، و41% في بيرو، وأكثر من 50% في فنزويلا ــ ما ألحق الضرر بالفقراء والطبقة المتوسطة.

في كل من هذه الحالات كان البنك المركزي واقعاً تحت سيطرة سياسيين. في تشيلي، نما المعروض النقدي بنحو 360% في عام 1970 وحده، ما ساعد في تمويل عجز في الموازنة يعادل 24% من الناتج المحلي الإجمالي.

وفي بيرو في عام 1989، سجل المعروض النقدي نمواً بلغ 7000%، وتجاوز العجز المالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي الأرجنتين في عام 2015، كان العجز 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وتجاوز المعدل السنوي لخلق النقود 40%. ويبلغ العجز في فنزويلا حالياً 32% من الناتج المحلي الإجمالي، وتشير بعض التقديرات إلى نمو المعروض النقدي بمعدل سنوي يتجاوز 1000%.

مع ارتفاع التضخم في هذه الدول، لجأ الناس هناك إلى تقليص حيازاتهم من العملة المحلية بشكل كبير، ولكن لأن الحكومات كانت تشترط دفع الضرائب بالعملة المحلية، فإنها لم تختف تماماً، وبدلاً من ذلك، سجلت سرعة انتقال النقود من يد إلى أخرى ــ ما يسميه أهل الاقتصاد «سرعة التداول» ــ زيادة هائلة، فلم يكن أحد راغباً في الاحتفاظ بنقود ورقية تخسر 20% من قيمتها أو أكثر كل شهر.

عندما ينهار الطلب على النقود، تتضخم تأثيرات نمو النقود على التضخم، وتنشأ حلقة مفرغة، ومن النتائج الخطيرة المترتبة على ذلك انخفاض قيمة العملة بسرعة في الأسواق الدولية.

يتجاهل أنصار النظرية النقدية الحديثة، على هواهم، حقيقة بسيطة مفادها أن الطلب على العملة المحلية يتراجع بشكل كبير عندما تتدهور قيمتها. ومع ذلك، ربما يشكل إحدى أكبر نقاط الضعف في النظرية، والتي تجعلها تشكل خطورة شديدة على أي دولة تطبقها.