لا ينبغي لأولئك الذين يأملون في التوصل إلى اتفاق تجاري بين الصين والولايات المتحدة في نهاية المطاف أن ينتظروا الكثير. فخلافاً لما يتصور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لم تَفرَغ جعبة الصينيين من الدهاء والفطنة، ولن ينصاعوا لمطالبه فجأة.
يتطلب التفاوض الناجح عادة أن يتفهم كل جانب وجهة نظر الآخر. وربما يشكك المرء في حكمة النهج الذي تتبناه الصين في التعامل مع هذا النزاع حتى الآن، ولكن في غياب فهم أعمق لفِكر الصين في الأمدين القريب والبعيد، لن يتحقق أي تقدم كبير.
يصر أنصار ترامب على ضرورة التعامل معه بجدية، وليس حرفياً. ويبدو أن القادة الصينيين يتفقون معهم على هذا. فقد تجاهلوا مطالب إدارة ترامب المفرطة وغير المعقولة، لكنهم لا يحملون أي قدر يُذكر من الشك عندما يتعلق الأمر بالمقصود من هذه المطالب: كبح جِماح الصين.
ولن نجد علاقة تُذكر بين هذا الهدف وأي مخاوف تجارية محددة، بل ربما يكون نابعاً حتى من العداء «الحضاري» ــ إن لم يكن العداء العنصري. وعلى هذا، كان لزاماً على الصينيين أن يعكفوا على ضبط حساباتهم الاستراتيجية، في الأمدين القريب والبعيد.
إلى جانب أحدث «هدنة» بين ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ، يتلخص مجمل النهج الصيني في التعامل مع النزاع التجاري في إدارة الأمور بهدوء وروية.
فقد أدرك الصينيون بعد معاينة الأحداث الأخيرة أن ظهورهم بمظهر الحريص على التوصل إلى اتفاق جعلهم يبدون وكأنهم ضعفاء عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم خلال المراحل الأولى من الصراع. وهم يعلمون الآن أن ترامب سيحاول الحصول على ميل إذا أعطيته شبراً.
فبعد التنازلات الكبيرة التي عرضتها الصين في الجولة الأخيرة من المحادثات في مايو، هددت الولايات المتحدة بفرض المزيد من الرسوم الجمركية على الصادرات الصينية؛ وحتى بعد الهدنة الجديدة، تظل التعريفات القائمة سارية.
أكثر ما تكرهه الحكومة الصينية هو أن تشبه بلاط أسرة تشينج في انحدارها وضعفها. وبالتالي فإن استراتيجية الانتظار والترقب التي تنتهجها حالياً تعتمد على رأيين. الأول أن الصينيين خلصوا إلى أن شراسة ترامب ستظل تعيث فساداً في الاقتصاد الأمريكي، وربما تحمله على التراجع في فترة التحضير لانتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2020.
ثانياً، يعلم الصينيون أن إعلان النصر أخيراً من قِبَل ترامب على المكسيك كان عملاً مسرحياً في الاستجابة لعصبية السوق المتنامية؛ وأن أحدث اتفاق بين الولايات المتحدة والمكسيك استند بالكامل تقريباً إلى اتفاقيات مبرمة مسبقاً وتنازلات مكسيكية وهمية لا وجود لها إلا على حساب ترامب على تويتر. في كل الأحوال، لن تندفع الصين إلى تقديم تنازلات عندما يفرض عدم ارتياح الأسواق التغيير على الموقف الأمريكي في أي لحظة.
الأمر الأكثر أهمية، بالنظر إلى ظنون قادة الصين بأن مصلحة إدارة ترامب الحقيقية تكمن في التوصل إلى اتفاق وليس تقويض اقتصاد الصين، هو أنهم سيستعدون بجدية لانهيار آخر للمفاوضات.
ولإدارة التكاليف الاقتصادية المترتبة على الحرب التجارية، قامت الصين بتفعيل عدد من وسائل التأثير التعويضية، وكثير منها غير متاح للولايات المتحدة. وهي تتضمن التحفيز المالي والنقدي، وتدابير تشجيع المزيد من الإقراض، وتعزيز النظام المالي الصيني. وقد سمح هذا بدوره بإضعاف الرنمينبي لموازنة نقاط الضعف التنافسية الناشئة عن التعريفات.
من المنظور الصيني الناشئ، فإن أي نفوذ أو ميزة تمتلكها الولايات المتحدة على الصين في التجارة تتفوق عليها بأشواط رغبة الشعب الصيني في تحمل الضغوط. وسوف يبذل الصينيون التضحيات اللازمة للحفاظ على الكبرياء الوطنية وعدم الظهور بمظهر التبعية للغرب. وقد تعزز هذا الزخم الوطني من خلال دراسة الصراع التجاري الأمريكي الياباني الذي يعود إلى ثمانينيات القرن العشرين.
«اعرف عدوك واعرف نفسك، ولن تخسر معركة واحدة بين مائة»، هكذا كتب سون تزو في «فن الحرب». على مر السنين، رعا زعماء الصين هذه النصيحة، فبذلوا جهوداً عظيمة لفهم الديناميكيات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة. وهم يعلمون أن ترامب يستغل المخاوف المحلية العميقة إزاء الصين، وأن هذا لابد أن يقابَل بإعادة التنظيم الاستراتيجي، وليس مجرد الإدارة التكتيكية.
وعلى هذا فقد تقبل الصينيون حقيقة مفادها أن الإعداد لحرب تجارية مطولة سيتطلب أكثر من مجرد سياسات اقتصادية محلية وموقف يقوم على الاعتماد على الذات. بل تحتاج الصين أيضاً إلى تكوين صداقات جديدة واسترضاء خصوم سابقين، وهذا هو السبب وراء حرصها على إصلاح ذات البين مع اليابان وأيضاً -بفضل ترامب- مع روسيا.
فلن تكون مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها شي للاستثمار وإقامة مشاريع البنية الأساسية عبر أوراسيا في حكم الممكن في غياب موافقة ضمنية من قِبَل الكرملين. وكعلامة على التعاون المتعمق بين الصين وروسيا، فإن خط أنابيب الغاز الروسي الذي كان متوجهاً إلى اليابان في الأصل أعيد توجيهه إلى الصين الآن.
في الوقت ذاته، تستفيد الصين من الشكوك حول الليبرالية الغربية من خلال الدفع بنظرة جديدة إلى العالم. لقد انكشف ضعف الغرب بفعل تباطؤ تعافيه الاقتصادي منذ اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، وتراجع متوسط العمر المتوقع بين بعض الفئات، وركود مستويات المعيشة، وانهيار التحالفات التقليدية.
في تصدير أجندة بديلة، تدعو الصين صراحة إلى زيادة تدخل الدولة لتحسين سبل العيش، فضلاً عن نظام قيم يعد الرفاهة الجمعية أعظم أهمية من الرغبات الفردية. كما تبذل الصين الجهود لتجاوز أو تخفيف آثار التحالفات العسكرية الإقصائية التي يقوم عليها النظام الذي يقوده الغرب.
مع ذلك، لا تستطيع الصين أن تشطب ببساطة العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الولايات المتحدة. فعند مرحلة ما، ستحتاج إلى المساهمة في النظام التجاري العالمي بما يتناسب مع ما اكتسبته من هذا النظام. وربما يعني هذا زيادة الواردات والتعامل بجدية مع قضية حماية الملكية الفكرية. ولكن من غير الواقعي أن ننتظر من الصين أن تعمل في الأمد القريب على تغيير قوانينها أو التخلي عن نموذجها التنموي، كما تطالب إدارة ترامب.
من جانبها ينبغي للولايات المتحدة أن تتأمل في المنظور الصيني. الواقع أن الصين، صاحبة الحضارة التي تمتد في التاريخ خمسة آلاف عام، تدرك أن أولئك الذي يسعون حثيثاً إلى التوصل إلى اتفاق سينتهي بهم المطاف إلى الخسارة، في حين أن أولئك الذين ما زالوا يتحلون بالصبر والتحفظ سوف ينتصرون. وسوف تسترشد استراتيجية الصين بهذا الموقف، سواء في الأمد القريب أو السنوات المقبلة.