لقد خلق نظام السياسة النقدية الذي يركز على التيسير الكمي (QE) وأسعار الفائدة الصفرية أو السلبية بيئة متساهلة بشكل غير عادي لفائدة بعض السياسيين.
يمكن لأولئك الذين هم على استعداد لاستغلال الظروف الحالية لتعزيز شعبيتهم إحراز تقدم ملحوظ - على الأقل في الوقت الحالي.
في جميع الاقتصادات المتقدمة تقريباً، تتفاعل صناعة السياسة النقدية والمالية بطريقة جديدة وفريدة من نوعها. على سبيل المثال، يجب أخذ بعين الاعتبار إصدار الحكومة الألمانية سندات مدتها 30 عاماً ذات عائد سلبي.
هذا يعني أنه بإمكانها الاقتراض مجاناً، ومن الناحية النظرية، فعل أي شيء تريده - بدون تكلفة. لكن ألمانيا ليست الوحيدة، ولهذا السبب ليس من المستغرب أن يطالب العديد من المواطنين بمزيد من النشاط المالي في أول علامة على تباطؤ النمو.
من الواضح أن الوضع الحالي يمكن أن تكون له عواقب نقدية وتوزيعية بعيدة المدى، نظراً إلى قيام الحكومات بمُصادرة ملكية أصحاب العائدات التقليديين بشكل تدريجي. لكن هذه مجرد البداية. غالباً ما كانت السياسة تدور حول إدارة المقايضات.
لا يمكن إنفاق الأموال في مجالات متعددة. إذا كانت الممرضات والأطباء يتلقون رواتب عالية، فسوف تكون رواتب المُعلمين أو الشرطة أو رجال الإطفاء أقل نسبياً. يجب على الحكومات الاختيار بين خفض الضرائب وبناء خطوط السكك الحديدية عالية السرعة الجديدة، وشركات الطيران، أو الطرق والجسور.
لكن اليوم، أدت السياسة النقدية غير التقليدية إلى ظهور سياسات غير تقليدية. في أوروبا، كانت الحكومات الشعبوية وسط وشرق أوروبا جيدة بشكل خاص في إتقان اللعبة الجديدة. يمكنهم شراء الفصائل السياسية المختلفة، ورفع مستحقات الأطفال، وزيادة المعاشات التقاعدية، وخفض سن التقاعد، وبناء البنية التحتية، وخفض الضرائب في نفس الوقت.
إذا عملت المعارضة على تقديم مقترحات إنفاق جديدة، فبإمكان الحكومة ببساطة تبني تلك الأفكار كأفكارها الخاصة، ما يضمن سيطرتها على السلطة.
ستؤدي هذه التحديات الجديدة التي تواجه الاقتصاد النقدي والسياسة المالية حتماً إلى خلل وظيفي. في التسعينيات، عندما كان الأوروبيون مُترددون حول تبني اليورو، تم بيع العملة الموحدة كأداة تأديبية وكوسيلة لتزييف التبادلات السيئة في السياسة التقليدية.
كان الانضمام إلى منطقة اليورو يعني التضحية بالسيادة على السياسة المالية؛ لكن العضوية ستجلب أسعار فائدة أقل، ما يقلل من تكاليف الدين الحكومي ويحرر الموارد للاستخدامات الأخرى.
في ظل النظام الجديد، لا يزال يعرف حجم الإنفاق ارتفاعاً ملحوظاً، مع وجود قيود جديدة ومُحددة: وتستفيد فقط البلدان التي تتعهد بالبقاء داخل الدائرة. عندما يقرر أحد البلدان المغادرة، يتم قطع الفوائد، ولهذا السبب، في إيطاليا وفرنسا، لم يعد حتى الساسة المتشككين في أوروبا يستمتعون بهذا الخيار.
بطبيعة الحال، لا يُحول اليورو بشكل سحري حكومات الدول الأعضاء إلى نماذج للاستقامة الاقتصادية. على العكس من ذلك، يتم مكافأتها الآن بفعالية على التصرف بشكل غير مسؤول وغير متوقع، مع إجبار السلطات النقدية على اتخاذ موقف أكثر مرونة.
تُعد الولايات المتحدة المثال الأكثر وضوحاً لهذه المناورة، حيث تؤدي الحرب التجارية التي شنها الرئيس دونالد ترامب وتهديداته عبر تويتر إلى تأجيج حالة عدم اليقين الاقتصادي وزيادة حدة المشكل بالنسبة للجنة السوق الفيدرالية المفتوحة. يقوم بنك الاحتياطي الفيدرالي الآن بتخفيض أسعار الفائدة لتفادي تباطؤ النمو.
إنها مسألة وقت فقط قبل قيام الشعبويين الأوروبيين، رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وماتيو سالفيني (الذي ما زال طموحه أن يصبح رئيس الوزراء الإيطالي) باتباع نفس الاستراتيجية.
ومما يزيد من حدة الخلل الوظيفي، يميل الشعبويون إلى اعتماد حجج فكرية جديدة، كما يعتبرون أنفسهم على نحو متزايد مفكرين جديين ومبدعين.
مهمتهم الأولى هي إقناع الناخبين بأن ما يفعلونه ليس خطراً. لكن هذا لم يكن صعباً للغاية، نظراً إلى أن الأصوات التي تنادي بزوال النظام الليبرالي القديم تُسمع الآن عبر الطيف السياسي. في جميع الاقتصادات المتقدمة، هناك تصور واسع النطاق بأنه منذ الأزمة المالية في عام 2008، لم تعد القواعد القديمة تُطبق.
تُعد القصة الجديدة مثالية بالنسبة للشعبويين. فهي تُفيد بأن الأزمة المالية تشوّه سمعة الاقتصاد التقليدي، وأن «الليبرالية الجديدة» كانت بمثابة وهْم خطير. كانت الرؤية الليبرالية الجديدة التي واجهت انتقادات كبيرة بعد الأزمة تتمثل في حقيقة أن التقييد المالي هو ميزة بالنسبة للمؤيدين، حيث يضمن أسعار فائدة منخفضة، وائتمان أرخص، وزيادة الإنفاق الاستهلاكي. وفقاً للنقاد، فإن الإنفاق الحكومي ليس مجانياً فحسب، ولكنه جيد بلا شك.
في هذا الاقتصاد الجريء الجديد، لا يستطيع أحد تحديد خطورة الدين. لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد مستوى مُعين من الديون يمكن أن يؤدي إلى انعكاس كبير. إذا أصبح المودعون والمستثمرون متوترين، فقد يصبح الدين مكلفاً مرة أخرى، ما يجعل رصيد الدين الحالي غير قابل للاستمرار. عندها فقط سيبطل مفعول السحر الشعبوي.
قد يجد أولئك الذين يريدون استعادة السياسة التقليدية والقواعد القديمة أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه. على الرغم من أنهم لا يرغبون في وضع حد للازدهار، إلا أنهم يبدون كما لو كانوا يقفون بجانب الشعبويين. لا أحد يريد التصويت لصالح كاساندرا عندما يكون شخص كثير التفاؤل مرشحاً. بحلول الوقت الذي يتم فيه تأكيد تحذيرات كاساندرا، يكون الوقت قد فات.
Ⅶ أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون وزميل متميز في مركز الابتكار للحكم الدولي.