سواء اعتبرنا اقتحام مبنى الكونجرس الأمريكي محاولة انقلاب، أو تمرداً، أو هجوماً على الديمقراطية، فهي مجرد مسألة دلالات لفظية. الجانب المهم في الأمر حقاً هو أن العنف كان موجهاً لعرقلة انتقال السلطة الشرعي لصالح رجل بالغ الخطورة وبأمر مباشر منه.
كانت أحداث السادس من يناير صادمة، لكنها لم تكن مفاجئة. لقد واظبت أنا والعديد من المعلقين الآخرين لفترة طويلة على التحذير من أن انتخابات 2020 ستجلب اضطرابات مدنية، وأعمال عنف، ومحاولات من قِـبَـل ترامب للبقاء في السلطة بشكل غير قانوني.
ولكن بالإضافة إلى جرائمه المرتبطة بالانتخابات، فإن ترامب مذنب أيضاً بالتجاهل للصحة العامة. الواقع أنه يتحمّل هو وإدارته قدراً كبيراً من المسؤولية عن حصيلة الوفيات الهائلة بمرض فيروس «كورونا» (كوفيد 19) في الولايات المتحدة، التي تمثل 4% فقط من سكان العالم، ولكن 20% من كل الوفيات بمرض فيروس «كورونا» فيها.
إن الولايات المتحدة، التي كانت ذات يوم منارة للديمقراطية وسيادة القانون والحكم الرشيد، تبدو الآن أشبه بإحدى جمهوريات الموز غير القادرة على السيطرة على مرض مُـعدٍ ــ برغم أنها تنفق على الرعاية الصحية أكثر مما تنفقه أي دولة أخرى وفقاً لنصيب الفرد ــ.
الآن، يضحك الزعماء المستبدون في مختلف أنحاء العالم على الولايات المتحدة ويسخرون من الانتقادات الأمريكية لسوء الحكم السياسي الذي يمارسه آخرون، وكأن الضرر الذي لحق بقوة الولايات المتحدة الناعمة على مدار السنوات الأربع الأخيرة لم يكن هائلاً بالقدر الكافي، فإذا بتمرد ترامب يقوّض مكانة أمريكا بدرجة أكبر.
وكان لا بد من ردع ترامب وعدم تمكنيه من خلق المزيد من الفوضى. وكذا كبح جماح الميليشيات اليمينية والمؤمنين بتفوق الجنس الأبيض لمنع المزيد من أعمال الاحتجاج والعنف والحرب العنصرية في مدن عبر الولايات المتحدة.
لا عجب بشعور رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي بالحاجة إلى التواصل مع رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة لمناقشة خطوات منع ضربة نووية يشنها ترامب.
وإن كان إصدار أمر غير مبرر بشن هجوم نووي على هدف به عدد كبير من السكان المدنيين سيقابل بالرفض من جانب المؤسسة العسكرية لكونه «غير قانوني» بوضوح، فإن الهجوم على هدف عسكري في منطقة غير مأهولة قد لا يُـرفَـض، حتى وإن كانت عواقبه الجيوسياسية وخيمة.
إن العفو الذاتي الذي كان ترامب يفكر في إصداره قد لا يمر عبر التدقيق الدستوري، فمن المعقول أن نفترض أنه سيتلمس طريقه بحثاً عن مخارج مبتكرة أخرى ليبدو فاعلاً حاضراً في العملية السياسية لاحقاً.
فهذا من شأنه أن لا يجعله يبدو وكأنه «خاسر» (وهي أسوأ إهانة في قاموس ترامب المؤمن بأهميته الذاتية المفرطة). لا شك أن تصرفات ترامب تركت الكثير من الآثار فقد قادت إلى تزعزع النظرة الديمقراطية ومكونها. الآن، يبدو اضمحلال الإمبراطورية الأمريكية وكأنه يتسارع بشدة.
ونظراً لمدى انقسام الولايات المتحدة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فإن أربع سنوات من القيادة الرصينة في عهد بايدن لن تكون كافية لعكس اتجاه الضرر الذي حدث بالفعل. فسوف يبذل الجمهوريون، في الأرجح، قصارى جهدهم لتخريب الإدارة الجديدة، كما فعلوا مع الرئيس السابق باراك أوباما.
حتى قبل الانتخابات، كانت وكالات الأمن الوطني في الولايات المتحدة تحذر من أن الإرهاب والعنف المحلي اليميني سيظلان يشكلان التهديد المحلي الرئيسي للولايات المتحدة. ومع تولي بايدن منصب الرئاسة، ستكون المخاطر أعلى.
على مدار السنوات الأربع الأخيرة، كان جماح ميليشيات أنصار التفوق الأبيض المدججة بالسلاح مكبوحاً نسبياً بسبب حقيقة مفادها أنهم لديهم حليف في البيض الأبيض.
ولكن بمجرد رحيل ترامب، فإن الجماعات التي أصدر إليها تعليماته «بالترقب والاستعداد» لن تتقبل ببساطة السيطرة الديمقراطية على الرئاسة والكونجرس. من الواضح أن ترامب، سيستمر في تحريض الغوغاء بالمزيد من نظريات المؤامرة، والخزعبلات حول الانتخابات المسروقة.
على هذا فإن الولايات المتحدة ستكون في الأرجح بؤرة عالمية جديدة لانعدام الاستقرار السياسي والجيوسياسي في الأشهر والسنوات المقبلة. وسيكون لزاماً على حلفاء أمريكا أن يتحوطوا في رهاناتهم ضد عودة الترامبية في المستقبل، في حين سيستمر خصومها الاستراتيجيون في محاولة زعزعة استقرار الولايات المتحدة من خلال حرب غير متكافئة. يبدو أن العالَـم مقبل على رحلة وعرة طويلة وقبيحة.