تتمثل إحدى نتائج القدرات التكنولوجية الجديدة في إضعاف محتمل للصلة التاريخية بين الاستقرار النقدي والإدارة المالية؛ إذ أطلقت البنوك المركزية برامج تحفيز ضخمة طويلة الأجل استجابة للتداعيات الاقتصادية لوباء «كوفيد 19»، ما زاد من مخاطر التضخم ودفع التدفقات المالية إلى فئات الأصول البديلة. وفي الوقت نفسه، يتزايد الطلب على إحداث ثورة نقدية.
وستكون هذه الثورة مدفوعة بالتقنيات الرقمية التي لا تتيح فقط أشكالاً جديدة من العملات الورقية الصادرة عن الحكومة (مثل الرنمينبي واليورو)، ولكن أيضاً العملات الخاصة التي يتم إنشاؤها بطرق مبتكرة، مثل الدفاتر الموزعة. وهذا التطور لا يقل أهمية عن الانفصال عن العملة المحددة. إذ يتجه العالم بسرعة نحو الأموال القائمة على المعلومات وليس على مصداقية حكومة معينة.
مثلما كان نيكسون يكافح من أجل إخراج الولايات المتحدة من حرب طويلة ومكلفة كانت تخوضها في فيتنام، عبر إجراءاى الية متخبطة، ولم يكن ممكناً الانتصار فيها، ها هو الرئيس الأمريكي جو بايدن يفعل ذلك الآن.
بيد أنه من المؤكد أن هناك هدفاً أوسع نطاقاً أيضاً. إذ يهدف بايدن إلى إحداث تحول اجتماعي أساسي. ويعد خلق الوظائف جزءاً حيوياً من القضاء على التفاوتات المستمرة. وبسبب المكانة الفريدة التي يتمتع بها الدولار باعتباره العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم، يمكن للولايات المتحدة أن تستمر في التحفيز المالي والنقدي على نطاق غير مسبوق في وقت السلم.
وبالنسبة لبعض المتفائلين في واشنطن العاصمة، قد يبدو استمرار مركزية أمريكا في الحوكمة الاقتصادية العالمية أمراً لا مفر منه: وحتى إن حدث التضخم الأمريكي مجدداً، فسيؤدي ذلك، في أسوأ السيناريوهات، إلى انخفاض قيمة الدولار وإعادة التوازن العالمي المعتدل (كما حدث في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، خلال فترة رئاسة جيمي كارتر). وستظل الولايات المتحدة توفر بضاعتين يحتاجهما الجميع: اللغة الإنجليزية كوسيلة مشتركة للتعبير، والدولار كوسيلة مشتركة للتبادل.
ولكن إلى متى سيظل هذا قائماً؟ هل يمكن أن تستمر المزايا الفريدة لأمريكا في وقت تقلصت فيه حصتها النسبية في الاقتصاد العالمي، وصعدت فيه قوى اقتصادية جديدة، وأصبح النظام الدولي هشاً، وتتجه فيه السياسة الأمريكية المحلية نحو فك الارتباط العالمي؟
الواقع أن كلتا المَزِيتين التقليديتين لأمريكا معرضتان بالفعل للتهديد. إن التقدم الهائل الذي عرفته الترجمة الآلية في السنوات الأخيرة يعني أن الناس في جميع أنحاء العالم يمكنهم الاعتماد الآن على الذكاء الاصطناعي، بدلاً من اللغة الإنجليزية.
وتشكل التقنيات الجديدة أيضاً مخاطر على الدولار، التي تعتبر لغة التبادل المشتركة. وبدأت تظهر بعض المخاطر بالفعل في سوق الأوراق المالية، حيث كانت هناك ضغوط على السيولة (في عام 2020)، وضعف الطلب الأجنبي. إن التفوق الطويل الأمد للدولار لا يتعرض للتحدي من قبل العملات الأخرى بقدر ما يتعرض له من خلال الأساليب الجديدة للتحدث بلغة نقدية عابرة للحدود مثل الدولار. ومع تسارع الثورة الرقمية، يقترب العصر الوطني المالي من نهايته.
ومن ثم، فإن الأموال الجديدة قد تنهي فترة طويلة من هيمنة الدولار. وفضلاً عن ذلك، سرّعت أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) هذا التطور من خلال الدخول في نسخة أكثر رقمية من العولمة، تتميز بتبادل أكبر للبيانات ولكن بحركة أقل للأشخاص والبضائع.
* أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون
opinion@albayan.ae