إن مشكلة التيسير الكمي، كما ذكر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي آنذاك بن برنانكي في عام 2014 فيما يتعلق ببرنامج شراء السندات الذي أقره بنك الاحتياطي الفيدرالي، تتمثل في «أنه يُحقق أداءً جيداً في الممارسة العملية، ولكنه لا يصلح من الناحية النظرية». يمكن للمرء أن يقول نفس الشيء عن سياسة الاقتصاد الكلي عموماً، بمعنى أنه لا توجد نظرية قوية تدعم هذه السياسة. تعمل الحكومات عادة على «تحفيز» الاقتصاد من أجل «مكافحة» البطالة، ولكن في ظل نظرية تنفي وجود أي بطالة ينبغي مكافحتها.

عاد علم الاقتصاد إلى ما كان عليه قبل قرن من الزمان: دراسة تخصيص الموارد المُتاحة، بالإضافة إلى نظرية كمية النقود. والواقع أن نظرية الاقتصاد الكلي - وهي نظرية الإنتاج ككل التي اخترعها جون ماينارد كينز - قد تلاشت فعلياً.

من وجهة نظر اقتصادية جانحة، فإن ما يُسمى بالبطالة هو خيار عدم العمل. الافتراض الأساسي هنا، هو أن الجميع يعملون على النحو الأمثل. لذلك، تُعد البطالة الحل الأمثل بالنسبة للعاطلين عن العمل. بالنظر إلى هذا الافتراض، فإن المنطق الذي نستند إليه في هذا السياق لا يمكن نفيه.

لذلك، إذا قامت الحكومة بتوسيع المعروض النقدي في محاولة لخلق المزيد من فرص العمل، فإن النتيجة الوحيدة ستكون ارتفاع معدلات التضخم، وذلك لأن التوسع النقدي لا يُساهم في زيادة المعروض من العمالة الراغبة في العمل. وبالتالي، ينبغي للسياسة النقدية أن تهتم فقط بتحقيق هدف استقرار الأسعار، والذي من الأفضل أن يعهد به إلى بنك مركزي مُستقل بعيد عن الإغراءات السياسية.

استسلم معظم خبراء الاقتصاد المُتعقلين لمنطق افتراضاتهم الخاصة. ولذلك، فقد حدد دارون أسيموغلو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ودافيد لايبسون من جامعة هارفارد، ودجون لاست من جامعة شيكاغو، في كتابهم الأخير بعنوان «الاقتصاد الكلي»، ثلاث فئات من البطالة «غير الطوعية»: البطالة الاحتكاكية والهيكلية والدورية. تنشأ البطالة الاحتكاكية لأن عمليات البحث عن الوظائف تستغرق وقتاً طويلاً. وتظهر البطالة الهيكلية بسبب جمود الأجور الذي يمنع كمية العمالة المطلوبة من مطابقة الكمية المعروضة. تحدث البطالة الدورية - أو القصيرة الأجل - بسبب «الصدمات التكنولوجية، والمشاعر المتغيرة، والعوامل النقدية».

تؤكد النظرية الاقتصادية الحديثة، أن العقبات التي تحول دون تحقيق العمالة الكاملة ليست راسخة بل عقبات عرضية. وبالتالي، يمكن الحد منها من خلال إصلاحات سوق العمل المُصممة «لإلغاء تثبيت» الأجور الثابتة، وكذا تحسين تنظيم عمل البنوك.

دفعت جائحة فيروس «كوفيد 19» الحكومات إلى التراجع عن تبني النظرية «الكينزية المالية»، لأنه لم يكن هناك أي سبيل أن تؤدي مجرد زيادة كمية الأموال إلى إعادة فتح الشركات التي منعها القانون من القيام بذلك. كانت النظرية الكينزية المالية خلال تدابير الإغلاق الشامل تعني توزيع مدفوعات الخزانة على الأشخاص الممنوعين من العمل.

ولكن اليوم، وبعد إعادة فتح الاقتصاد، اختفى الأساس المنطقي العملي للتوسع النقدي والمالي. لذلك، فقد حان الوقت لتشديد السياسة النقدية والمالية على حد سواء، لأن استمرار التوسع في أي منهما أو كليهما لن يؤدي إلا إلى «ارتفاع معدلات التضخم».

إن السياسة النقدية صالحة من الناحية النظرية، ولكن ليس في الممارسة العملية؛ والسياسة المالية فعالة في الممارسة العملية، ولكن ليس من الناحية النظرية.

إن الاقتصاد الكلي هو نتاج عدم اليقين. وما لم يدرك الاقتصاديون وجود حالة من عدم اليقين لا مفر منها، لا يمكن أن تكون هناك نظرية للاقتصاد الكلي، ولن يتبقى سوى استجابات احترازية لحالات الطوارئ.

* عضو مجلس اللوردات البريطاني وأستاذ فخري للاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.