سلط الارتفاع الكبير في حالات الإصابة بفيروس «كورونا» في أوروبا خلال الآونة الأخيرة، وخاصة بشأن الحالات التي تخضع للعلاج في المستشفيات..

وفي عدد الوفيات، الضوء على مجموعة من الأوروبيين، وعلى وجه التحديد، أولئك الذين لا يزالون مترددين فيما يتعلق بأخذ اللقاحات، ويتعلق الأمر هنا بمواطني أوروبا الشرقية الشيوعية سابقاً. إذ بينما تلقى 75.6% من مواطني الاتحاد الأوروبي جرعاتهم الكاملة من التطعيم، بلغت النسبة في بلغاريا وفي رومانيا 26.2% و39.6% على التوالي.

أما في بلدان أخرى خارج الاتحاد الأوروبي، فالأرقام تشير إلى ما هو أسوأ. إذ فقط 20.2% من سكان أوكرانيا، و36.3% من مواطني روسيا هم من تلقوا جرعتاهم الكاملة من اللقاح.

ما هي مشكلة أوروبا الشرقية؟ إنها باختصار التضليل. فالمعلومات المضلِلة تغزو المنطقة، وهذه آثار تركة فقدان ثقة الشعب في المؤسسات الحكومية بعد الشيوعية. إذ استحوذت نظريات المؤامرة المحمومة على هذه البلدان تماماً كما استحوذ عليها فيروس «كورونا».

وفي الآونة الأخيرة، لخصت طبيبة أوكرانية الوضع في بلدها في عبارة قالت فيها: «إن الروايات المغلوطة منتشرة على نطاق واسع، مما جعل الناس يؤمنون بالرقائق الدقيقة والطفرات الجينية...

كما حث بعض الكهنة الناس علنًا وبقوة على عدم التطعيم، وغزت الشائعات الأكثر سخافة الشبكات الاجتماعية. وتعلم الأوكرانيون ألا يثقوا في أي مبادرات تقوم بها السلطات، ولم «يُستثنى» التطعيم منها»

والآن، نظراً لتجاوز معدلات الوفيات لمستويات الذروة التي كانت عليها سابقاً، وتزايد الخوف، بدأت معدلات التطعيم في الارتفاع.

بيد أن العديد من البلدان تعرف انتشاراً واسع النطاق لجوازات التلقيح المزيفة، ونتائج اختبار التفاعل المتسلسل للبوليميراز- إذ في بلغاريا، على سبيل المثال، يمكن شراء جوازات اللقاح ونتائج الاختبارات مقابل 150 ــ 300 يورو (173 ــ 347 دولارًا)- ولا أحد على علم بعدد هذه الوثائق.

وبطبيعة الحال، تنتشر الشائعات والمعلومات المضللة في الغرب أيضًا. إذ استمرت قناة (فوكس نيوز)، القناة الإخبارية الأكثر مشاهدة في الولايات المتحدة، في نشر معلومات مضللة عن اللقاحات لفترات طويلة. ولكن 70% من البالغين الأمريكيين تلقوا جرعاتهم الكاملة من التطعيم. لماذا يعتبر الكثير من الأوروبيين الشرقيين أكثر عرضة للإصابة؟

إن تدني مستوى الثقة العامة الذي يميز أوروبا الشرقية هو إرث خلفه انهيار الشيوعية، والركود الانتقالي الكبير في العديد من البلدان، وإخفاق حكومات ما بعد الشيوعية في التخفيف من آثار ذلك.

ورغم أن مقالًا لـ (رويترز) تم تداوله على نطاق واسع، يشير إلى رأي «خبراء» لم تُذكر أسماؤهم والذين يلومون «عقودًا من الحكم الشيوعي الذي أدى إلى تراجع ثقة الشعب في مؤسسات الدولة»، كانت ثقة الشعب في الواقع أكبر بكثير في الحقبة الشيوعية.

وبينما كنا نشتغل على كتابنا الأخير، Taking Stock of Shock: Social Consequences of the 1989 Revolutions، تَطرقنا لافتقار أوروبا الشرقية للثقة العامة باستخدام بيانات من المسوح العالمية للقيم.

ومسوح الحياة في المرحلة الانتقالية الصادرة عن المصرف الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية وباستثناء القليل من البلدان، تُظهر مسوح القيم العالمية انخفاضًا ثابتًا في البلدان الشيوعية السابقة فيما يتعلق بنسب الأشخاص الذين يتفقون مع عبارة «يمكن الوثوق بمعظم الناس».

وكان هذا التراجع أوضح في البلدان التي عانت من ركود أعمق في فترة ما بعد الشيوعية، ولم يعكس منحاه عندما استرجعت هذه البلدان نموها الاقتصادي.

وحتى في الحالات الناجحة نسبيًا في بولندا وجمهورية التشيك، حيث توفر مسوح القيم العالمية بيانات بصورة أكمل، تراجعت الثقة خلال فترة الانتقال التي أعقبت الشيوعية.

إذ في 1989 ــ 1992، اعتقد 31.3% من البولنديين و30.2% من التشيك أنه يمكن الوثوق بمعظم الناس.

وفي 2017 ــ 2020، كانت هذه الحصة أقل بكثير- فقط 24.1% و21.1% على التوالي. ومن الواضح أنه بينما تراجعت الثقة الاجتماعية في جميع أنحاء أوروبا الشرقية بين عامي 1991 و2007، فقد زادت في أوروبا الغربية.

وأجرى البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية دراسته الاستقصائية الكبيرة «الحياة في المرحلة الانتقالية» في عام 2006، عن طريق إجراء 1000 مقابلة شخصية في كل دولة من الدول الـ 28 ما بعد الشيوعية.

وخلُص إلى أنه في حين يعتقد ثلثا المجيبين أنه قبل عام 1989، كان ممكناً الوثوق بمعظم الناس، وافق حوالي الثلث فقط على أنه يمكن الوثوق بمعظم الأشخاص بعد مرور 17 عامًا.

وكانت هذه النتيجة متسقة في جميع المناطق والبلدان، حيث اتفق أغلب المجيبين في جميع الفئات العمرية وفئات الدخل على أن الناس كانوا عمومًا «أكثر جدارة بالثقة» في ظل الشيوعية.

وليس من المستغرب أن خيبة الأمل من نتائج التحول أدت أيضًا إلى انخفاض متوسط الثقة في المؤسسات العامة (بما في ذلك الحكومة، والبرلمان، والمحاكم والجيش، والشرطة)، في منطقة ما بعد الشيوعية من تسعينيات القرن الماضي حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ومن عام 1990 إلى عام 2013، تراجعت الثقة في المؤسسات السياسية في وسط أوروبا وشرقها إلى نصف المستوى الذي كانت عليه في السابق.

وبعد التأمل في هذه البيانات، خلُص إريك بيرغلوف، كبير الاقتصاديين في البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في ذلك الوقت، إلى أنه «من المهم أن نضع في اعتبارنا أن الضرر الذي حدث خلال الأوقات العصيبة، ليس فقط فيما يتعلق بالرفاهية المادية ولكن أيضًا على المستويات العامة من الثقة والرفاهية الذاتية، لا ينبغي الاستهانة به».

وفي الواقع، تسلط البيانات المتعلقة بالدراسة الاستقصائية الضوء على حقيقة غير معروفة: فقد كانت فترات الركود ما بعد الشيوعية الأسوأ في التاريخ الحديث، وأسوأ بكثير من الكساد العظيم.

ولكن لم تعانِ كل البلدان على قدم المساواة. إذ في حين أن بعض الدول، ولا سيما دول أوروبا الوسطى، تعافت بسرعة نسبيًا وحققت تقدماً نحو معايير الاتحاد الأوروبي، عانت العديد من الدول الأخرى من خسائر لا يمكن تصورها.

إذ عادت الدول ما بعد الشيوعية المتوسطة الحال إلى مستويات ما قبل 1989 من الناتج الاقتصادي بعد 17 عامًا فقط، مما أدى إلى تغذية إرث عميق من عدم الثقة والشعور بالتخلي عن البلدان التي عززت ثقافة المساعدة المتبادلة ضد الدولة في ظل الشيوعية.

وتُظهر تجربة أوروبا الشرقية مع الوباء أن العديد من البلدان لم تتراجع بعد عن الانخفاض الكبير للثقة العامة الذي بدأ بعد عام 1989. إن الدرجة العالية من الشك في اللقاحات في المنطقة وارتفاع معدلات الوفيات هي نتيجة واضحة - نتيجة لا تعكس عقودًا من الحكم الشيوعي، بل بالأحرى، العواقب الاجتماعية التي استمرت لعقود بعد انهياره.

* أستاذة الدراسات في مجال شؤون روسيا وأوروبا الشرقية، وعضو في مجموعة الدراسات العليا في الأنثروبولوجيا في جامعة بنسلفانيا.

** أستاذ الدراسات في مجال شؤون روسيا وشرق أوروبا والعلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا، وزميل أقدم في معهد أبحاث السياسة الخارجية.