إن الحديث عن إعادة التوازن إلى العلاقة عبر الأطلسي يجب أن يصبح حقيقة واقعة. يتعين على الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي، وألمانيا بشكل خاص، تحمل نصيب أكبر كثيراً من أعباء الدفاع ورفع مستوى قدراتهم العسكرية واستعدادهم. في الواقع، يجب أن تصبح ألمانيا الدولة صاحبة القوة العسكرية التقليدية الأكبر في الركيزة الأوروبية التي يستند إليها حلف شمال الأطلسي. ويجب أن تظل الولايات المتحدة العمود الفقري العسكري الوجودي للحلف، ولكن لا ينبغي لها أن تدير العرض بعد الآن. في الوقت ذاته، ستتنامى الأهمية السياسية لتواجد القوات الأميركية في أوروبا، وهذا من شأنه أن يطمئن الحلفاء الأوروبيين إلى أن المزيد من القوة الألمانية يعني المزيد من الأمن.

يسير الدور الأمني الأوروبي الأكثر نشاطاً كتفاً بكتف مع زيادة القدرات. ويتعين على الأوروبيين ــ سواء من خلال الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي ــ أن يعملوا على شغل بعض الفراغ للمساعدة في تعزيز الاستقرار في مناطق الاضطرابات. الواقع أن أوروبا الأكثر اقتداراً ونشاطاً يمكنها اكتساب المزيد من الدعم الشعبي والتحول إلى شريك أكثر فعالية للولايات المتحدة، مما يعزز العلاقة عبر الأطلسي. في المقابل، كلما زادت أوروبا من نزوعها إلى الركوب بالمجان على حساب الولايات المتحدة، تزايدت سرعة فقدان الأوروبيين الثقة في الاتحاد الأوروبي، وتعاظمت سرعة نفاد صبر الولايات المتحدة، مما يزيد من ضعف العلاقات عبر الأطلسي.

ويتعين على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أن يعكفوا على تشكيل جبهة أكثر اتحاداً في التعامل مع دول كثيرة مهددة.

يتمتع الحلف الأطلسي بفترة من الترميم والشفاء بعد الضرر الذي ألحق به. ولكن كما توضح الأحداث العالمية الأخيرة، يتعين على الحلف أن يتعهد ببذل جهود حازمة لإعداد نفسه للتحديات الهائلة المقبلة.

انتعشت العلاقات عبر ضفتي الأطلسي بقوة بعد وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المكتب البيضاوي. لكن استيلاء حركة طالبان السريع على أفغانستان وإجلاء الرعايا الأجانب والأفغان المعرضين للخطر على هذا النحو الفوضوي أدى إلى إفساد المزاج. هذا الانزعاج الأوروبي إزاء تعامل بايدن مع الانسحاب من أفغانستان، إلى جانب الانتخابات الفيدرالية المقبلة في ألمانيا في السادس والعشرين من سبتمبر /‏‏‏‏ أيلول، يجعل هذه اللحظة مناسبة تماما لمراجعة وتقييم التحالف الأطلسي.

تعمل أربعة تغيرات جيوسياسية جوهرية على إعادة تشكيل العلاقات عبر الأطلسي. أولاً، على الرغم من نجاة الارتباط عبر الأطلسي من تأثير دونالد ترمب، فإن رئاسته (واقترابه الشديد من إعادة انتخابه)، التي اقترنت بصعود الشعبوية غير الليبرالية التي انتقلت عدواها إلى أوروبا أيضاً، كشفت عن هشاشة الديمقراطية الليبرالية في معاقلها التاريخية. هذا الخطر الداخلي، وليس الصين، أو روسيا، أو التطرف العنيف، هو الذي ربمـا يشكل التهديد الأعظم الذي يواجه مجتمع عبر الأطلسي اليوم.

ثانياً، على الرغم من أن انتخاب بايدن أعاد تنشيط روح التعاون الأطلسي، فقد تمكن الضعف من الأسس المحلية التي تقوم عليها العالمية الأميركية إلى حد بعيد. ينظر الحلفاء في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى انسحاب الولايات المتحدة المتسرع من أفغانستان على أنه علامة مثيرة للقلق، حيث تشير إلى أن «سياسة بايدن الخارجية الداعمة للطبقة المتوسطة» تعني التركيز على الجبهة الداخلية واستمرار تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. علاوة على ذلك، قد يعني انشغال أميركا بالصين على المستوى الاستراتيجي تضاؤل القدر الذي تخصصه الولايات المتحدة لأوروبا من الاهتمام والموارد، وربما يعني ضمناً تعاظم التوقعات بتضاعف الجهود التي يبذلها الأوروبيون لتوفير الأمن لأنفسهم بأنفسهم.

ثالثاً، خضع الاتحاد الأوروبي ذاته لتغيرات كبرى في السنوات الأخيرة. فقد تمكن الضعف من تماسكه الداخلي في مواجهة أزمة الهجرة، وخروج بريطانيا، وجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد 19)، وسيطرة الحكومات غير الليبرالية العنيدة على السلطة في أوروبا الوسطى. الواقع أن الضغوط الداخلية المفروضة على التضامن في الاتحاد الأوروبي تعمل على تعزيز الحاجة إلى قيادة ألمانية، لكنها تزيد أيضاً من تحفظ الآخرين إزاء النفوذ الهائل الذي تتمتع به ألمانيا.

يتمثل التغير الرابع في طموح الصين الاستراتيجي، وتنامي نفوذها العالمي بفضل مبادرة الحزام والطريق العابرة للحدود الوطنية. لا يتمتع التحالف الأطلسي الآن بالهيمنة المادية والإيديولوجية التي كانت من سماته ذات يوم، ويجب أن يعكف على تكييف أولوياته الاستراتيجية وفقاً لذلك.

للحفاظ على مركزيته وتماسكه وسط هذا المشهد العالمي المتغير، ينبغي للمجتمع الأطلسي أن يسعى وراء عدة أهداف. على رأس أولوياته، يتعين عليه أن يهزم العدو في الداخل من خلال معالجة المصادر الأساسية للشعبوية غير الليبرالية. صحيح أن الظروف ليست متطابقة في الولايات المتحدة وأوروبا، لكن الحوار عبر الأطلسي حول الحد من انعدام الأمان الاقتصادي، ورسم خريطة إلى مستقبل العمل في العصر الرقمي، والتعافي من جائحة كوفيد 19 شروط أساسية. تتمثل أولوية عليا أخرى في تطوير سياسات الهجرة التي تفي بالالتزامات الأخلاقية والاحتياجات الاقتصادية الأميركية والأوروبية لكنها كفيلة أيضاً بتأمين حدودهما. خلافاً لذلك، ستستمر العناصر الجاذبة في السياسات المعادية للمهاجرين والأجانب في اكتساب المزيد من الثِـقَـل.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة غوته في فرانكفورت

** كبير زملاء مجلس العلاقات الخارجية، وأستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورج تاون، وهو مؤلف كتاب «الانعزالية: تاريخ من الجهود التي تبذلها أمريكا لوقاية نفسها من العالم» (مطبعة جامعة أكسفورد، 2020)