في هذه الأيام، يتحدث صانعو السياسة النقدية بصرامة عن محاربة التضخم لتجنب مخاطر خروجه عن السيطرة.
ولكن هذا لا يعني أنهم لن يضعفوا في النهاية، فيرفعون معدل التضخم فوق الهدف المحدد. فنظراً لأنه على الأرجح أن تحقيق الهدف يتطلب هبوطاً شديداً.
فقد يضطرون إلى رفع الأسعار ثم يتقهقرون إلى الوراء بمجرد أن يصبح سيناريو تجاوز الهدف المحدد أكثر احتمالية.
وفضلاً عن ذلك، نظراً لوجود قدر كبير من الدين العام والخاص في النظام (348 % من الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم)، يمكن أن تؤدي زيادات أسعار الفائدة إلى مزيد من التراجع الحاد في أسواق السندات والأسهم والائتمان، مما يمنح البنوك المركزية سبباً آخر للتراجع.
وببساطة، يمكن أن تؤدي جهود مكافحة التضخم إلى انهيار الاقتصاد أو الأسواق أو كليهما بسهولة.
وبالفعل، أدى القدر المتواضع من التشديد في سياسة البنوك المركزية إلى زعزعة الأسواق المالية، مع اقتراب مؤشرات الأسهم الرئيسية من مستويات متدنية (انخفاض بنسبة %20 عن المستويات المرتفعة الأخيرة)، وارتفاع عائدات السندات، واتساع هوامش الائتمان.
ومع ذلك، إذا تراجعت البنوك المركزية الآن، فستشبه النتيجة الركود التضخمي الذي حدث في سبعينيات القرن الماضي، عندما كان الركود مصحوباً بتضخم مرتفع وتوقعات تضخم غير ثابتة.
وتشير الأدلة التاريخية إلى أن الهبوط الهادئ أمر بعيد الاحتمال. ويؤدي هذا إما إلى هبوط شديد وعودة إلى تراجع التضخم، أو إلى سيناريو الركود التضخمي. وفي كلتا الحالتين، من المرجح حدوث ركود في العامين المقبلين.
في عام 2021، ركز الجدل الكبير بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي على ما إذا كان ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة مؤقتاً أم مستمراً.
وكانت البنوك المركزية الرئيسية ومعظم الباحثين بشأن «وول ستريت» يضمون أصواتهم لـ«فريق التضخم المؤقت». إذ عزوا المشكلة إلى التأثيرات الأساسية والاختناقات المؤقتة في العرض، مما يعني ضمناً أن معدل التضخم المرتفع سرعان ما سيتراجع إلى النطاق الذي تستهدفه البنوك المركزية والمحدد في 2٪.
وفي الوقت نفسه، جادل «فريق التضخم المستمر»- بقيادة لورانس إتش سامرز، من جامعة هارفارد، ومحمد أ. العريان من كلية كوين بجامعة كامبريدج، وخبراء اقتصاديين آخرين أن التضخم سيظل مرتفعاً، بسبب فورة في النشاط الاقتصادي ناتجة عن الطلب الكلي المفرط.
وكان هذا الطلب مدفوعاً بثلاث قوى: السياسات النقدية المتساهلة باستمرار، والسياسات المالية التحفيزية المفرطة، والتراكم السريع لمدخرات الأسر أثناء الوباء، مما أدى إلى الطلب المتراكم بمجرد إعادة فتح الاقتصادات.
وبالنسبة لي، فقد كنت مع فريق التضخم المستمر. ولكنني قلت بأنه بالإضافة إلى الطلب الكلي المفرط، تسهم العديد من صدمات العرض الكلي السلبية في ارتفاع التضخم بل في الركود التضخمي .
وأدت الاستجابة الأولية لـ«كوفيد19» إلى الإغلاق، مما تسبب في اضطرابات كبيرة في سلاسل التوريد العالمية، وانخفاض العرض في مجال القوى العاملة (خلق سوق عمل محدود إلى حد كبير في الولايات المتحدة). ثم تعرض العرض لصدمتين إضافيتين هذا العام: الحرب بين روسيا وأوكرانيا، التي أدت إلى ارتفاع أسعار السلع، واستراتيجية خاصة بردع كوفيد19.
ونحن نعلم، الآن، أن فريق التضخم المستمر كسب النقاش بشأن التضخم لعام 2021. ومع ارتفاع التضخم إلى ما يقرب من مستويات تتألف من رقمين، أقر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنوك المركزية الأخرى بأن المشكلة ليست مؤقتة، وأنه يجب معالجتها بصورة عاجلة عن طريق تشديد السياسة النقدية.
وقد أثار ذلك جدلاً كبيراً آخر بشأن ما إذا كان بإمكان صانعي السياسة الاقتصادية هندسة «هبوط هادئ» للاقتصاد العالمي. ويؤكد بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى أنها ستكون قادرة على رفع معدلات سياستها إلى مستويات تكفي فقط لخفض معدل التضخم إلى هدف 2٪ دون التسبب في ركود.
ولكن الشك يراودني ويراود العديد من الاقتصاديين الآخرين بشأن إمكانية تحقيق سيناريو الاقتصاد المعتدل - اقتصاد لا هو متدهور ولا هو قوي. إن درجة تشديد السياسة النقدية اللازمة ستؤدي حتماً إلى هبوط شديد سيتخذ شكل ركود وارتفاع في معدل البطالة.
ونظراً لأن الصدمات التضخمية المصحوبة بركود تضخمي تقلل النمو وتزيد من معدلات التضخم، فإنها تواجه معضلة البنوك المركزية.
فإذا كانت الأولوية القصوى لهذه البنوك هي محاربة التضخم، ومنع حدوث تراجع خطير في توقعات التضخم، فيجب أن تتخلص تدريجياً من سياساتها التوسعية غير التقليدية، وأن ترفع معدلات السياسة بوتيرة من المحتمل أن تتسبب في هبوط حاد.
ولكن إذا كانت أولويتها القصوى هي الحفاظ على النمو والتوظيف، فسوف تحتاج إلى تطبيع السياسة بوتيرة أبطأ، والمخاطرة بإرباك توقعات التضخم، مما يمهد الطريق نحو تضخم مستمر يتجاوز الهدف المحدد.
لذلك فإن سيناريو الهبوط الهادئ يبدو بعيد المنال.
ما السيناريو الأكثر احتمالاً؟ كل هذا يتوقف على مجموعة من العوامل غير المؤكدة، بما في ذلك استمرار دوامة الأجور والأسعار؛ المستوى الذي يجب أن ترتفع إليه معدلات السياسة لكبح جماح التضخم؛ واستعداد البنوك المركزية لفرض سياسات مؤلمة قصيرة الأجل، من أجل تحقيق أهداف التضخم التي حددتها.
وفضلاً عن ذلك، يبقى أن نرى المسار الذي ستتخذه الحرب في أوكرانيا، وما تأثير ذلك على أسعار السلع الأساسية؟. وينطبق الشيء نفسه على بعض سياسات مواجهة «كورونا» وما يصحبها من انعكاسات على سلاسل التوريد، وعلى التصحيح الحالي في الأسواق المالية.
*أستاذ فخري للاقتصاد في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك.