جاءت استقالة ليز تـراس، أقصر من تولى منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة خدمة، لتكمل دراسة حالة قوية حول ما لا ينبغي أن تكون عليه عملية صنع السياسة المالية.

لكن الدرس يمتد إلى أعماق أكبر من فكرة أن السياسة البريطانية كانت ممزقة بفعل صراعات مؤلمة تؤلب الحكومة ووزارة الخزانة على بنك إنجلترا. كان الفشل الحقيقي متمثلاً في التغافل عن مخاطر كبرى ظلت تتراكم في بنية النظام المالي لفترة طويلة.

يستمد درس السياسة المالية قوته من سهولة شخصنته. سوف تذكر كتب التاريخ ليز تـراس إلى جانب الليدي جين جراي، الملكة التي دام حكمها تسعة أيام فقط والتي ماتت (إعداماً) في خضم الاضطرابات الدينية في إنجلترا في القرن السادس عشر. الواقع أن المملكة المتحدة الحديثة تواجه ما يعادل صداماً ذا طبيعة خاصة تناسبها.

كان الخطأ ــ في ظاهر الأمر ــ متمثلاً في إعلان الحكومة عن تخفيضات ضريبية غير ممولة بقيمة 45 مليار جنيه إسترليني (50 مليار دولار)، بما يعادل 2 % من الناتج المحلي الإجمالي، والتي تضمنت خفضاً بسيطاً في المعدل الأساسي وإزالة شريحة الدخل الأعلى. تصور مُـنشئو هذا المخطط، بالخطأ في الأرجح، أنه كفيل بتحفيز المبادرة والاستثمار.

وبالتالي النمو. اشتمل الأمر أيضاً على حزمة أكثر تكلفة لدعم مستهلكي الطاقة، والتي كانت في ذلك الوقت البرنامج الأكثر سخاء من هذا القبيل في أوروبا، حيث بلغت نحو 200 مليار إسترليني، أو 9 % من الناتج المحلي الإجمالي.

هذه أرقام كبيرة بالطبع، لكن مستوى الدين العام في المملكة المتحدة كان أقل كثيراً من نظيره في الولايات المتحدة، ناهيك عن إيطاليا، أو حتى حالة اليابان الأكثر تطرفاً. لا ينبغي لنقص الدخل والنفقات الجديدة أن تكون في حد ذاتها سبباً لتحويل المملكة المتحدة إلى يونان جديدة أو أرجنتين جديدة.

ربما كان الخطأ الحقيقي الذي ارتكبته تـراس هو التعامل بجدية مع ثرثرة حول الكيفية التي تسبب بها عصر المال الرخيص وأسعار الفائدة السلبية فعلياً في تحويل أي شكل من أشكال الإنفاق العام إلى وجبة غداء مجانية، لأن الدين لن يتعين سداده ولأن تكلفة خدمته كانت في انخفاض. إن ارتفاع التضخم، ألزم البنوك المركزية بتفويض استقرار الأسعار القانوني لإحكام قيود السياسة النقدية وبالتالي زيادة تكلفة تمويل الحكومة. كانت التكلفة هي التي أسقطت تـراس.

خلال فترة ما بين الحربين، فرضت البنوك المركزية في بريطانيا وفرنسا الضغوط على الحكومات اليسارية التي كانت تدير عجزاً صغيراً نسبياً، مما أدى إلى ظهور قصة صَـدَّقَها أغلب الناس حول «منحدر المصرفيين» ــ ما أسماه الفرنسيون «جدار المال».

استُـخـدِم هذا المصطلح من قِـبَـل تحالف يسار الوسط بقيادة إدوارد هيريوت في عام 1924، عندما اهتز بسبب عدم الاستقرار المالي ثم انهار في النهاية. ثم لاقت حكومة رامسي ماكدونالدز العمالية مصيراً مماثلاً في عام 1931، في وسط الكساد العالمي.

إن التفكير في ما حدث لتـراس من منظور السياسات المالية والنقدية المتضاربة يُـغـفِـل جزءاً مهماً ومدهشاً من القصة: مدى ضعف جزء رئيسي من القطاع المالي في المملكة المتحدة أمام ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض أسعار السندات. استفادت صناعة صناديق معاشات التقاعد، الملتزمة بسداد تكاليف سياسات محددة المزايا، من حيازاتها من الدين الحكومي من أجل السعي وراء عوائد أعلى.

إذا هبط سعر الدين العام بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، تواجه الصناديق طلبات ضمان. والآن، نـجد أن صناديق معاشات التقاعد في المملكة المتحدة، التي تحتفظ بما تقترب قيمته من 1.5 تريليون جنيه من هذا النوع من المخططات، تواجه نقصاً في السندات التي يمكن بيعها بسهولة. يفسر تدخل بنك إنجلترا التحول الغريب في أسعار الدين الحكومي.

حيث انخفضت أسعار الأوراق المالية المربوطة بالمؤشر أو المقاوِمة للتضخم إلى مستويات أدنى من تلك التي شهدتها الأوراق المالية العادية، لسبب بسيط مفاده أن صناديق معاشات التقاعد كانت تحتفظ بكميات أكبر كثيراً من الأوراق المالية المربوطة بالمؤشر. وبدلاً من الهيمنة المالية أو النقدية، كانت هذه هيمنة التمويل، مع تسبب التزامات معاشات التقاعد في إصابة الاختيارات السياسية بالشلل.

نُـصِـبَ هذا الفخ قبل جيل كامل، بموجب قانون معاشات التقاعد في المملكة المتحدة لعام 2004، والذي كان المقصود منه توفير قدر أكبر من الأمن أو الحماية لأصحاب المعاشات من خلال زيادة صعوبة احتفاظ صناديق معاشات التقاعد بالأسهم. وبذلك، كان لزاماً على صناديق التقاعد الانتقال إلى السندات ــ وإلى استراتيجيات الروافع المالية، التي كانت تعتمد على افتراض سيولة أسواق السندات الدائمة.

الواقع أن المخاطر والقيود السياسية التي خلقها هذا تشكل توبيخاً أشد قهراً للقائمين على البنوك المركزية وهيئات التنظيم المالي مقارنة بفكرة التدخل المسيس في أكتوبر 2022. والاحتجاج بحقيقة أن بنك إنجلترا لم يكن مسؤولاً بشكل مباشر عن التنظيم المالي في عام 2004 ليس أكثر من عذر واهٍ.

كان فشل الهيئات التنظيمية ومجتمع السياسات في عموم الأمر في تحديد الآلية التي نصبت الفخ للحكومة شديد الوضوح. لقد فجرت ليز تـراس لغماً بريطانياً بامتياز وربما كان لينفجر في أي وقت خلال العقد الماضي.

وربما تكون ألغام أخرى كامنة في أنظمة مالية أخرى. إن فشل تـراس يعني أن الشعبوية المالية، التي انتهجها أيضاً سلفها بوريس جونسون، أصبحت مستبعدة الآن في بريطانيا. لكنها أصبحت أيضاً أشد خطورة في أماكن أخرى الآن.

* أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون.