تبقى الثقافة هي سيدة الموقف؛ لأنها المعنية بالسلوك وبالعادات والتفاصيل الدقيقة في الحياة. فالثقافة في مفهومها العام، هي كل ما نأتيه من أفعال وكل ما نتعاطى معه، وهي الأسلوب الذي نختار والتعامل الذي ننحاز إليه، وهي فن التعاطي مع الحركة والسكون. وتراكمها يخلق وعيا يصبح زادا للحياة، ومنذ أن كان الإنسان الأول يتعلم ويراكم، بقينا إلى الآن نتعلم ونراكم ونكون الثقافة التي نستلهم معها تعاطينا. وكل جديد ينتج لنا ثقافة للتعاطي، وننتج منه سلوكا.

هذه الأيام نتحدث عن كارثة السلوك الخطر في تعاطينا مع جهاز البلاك بيري، ويكاد يكون هذا التعاطي كارثيا، بل قاتلا، الأمر الذي وجدت معه الشرطة نفسها مسؤولة عن حماية الناس من سلوكهم الخطر، مع التعاطي مع هذه المفردة، أو الكمالية العصرية. رأت الشرطة أننا نقتل أنفسنا بالتعاطي معها أثناء قيادة السيارة، فوضعت لها عقابا. فأصبح كل إنسان يحمل بلاك بيري ويستخدمه أثناء سياقته.

معرضا للعقاب عن طريق غرامة مالية. الشرطة وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، فهي في البداية تمارس دورا من أدوارها ومسؤوليتها في الحفاظ على سلامة الناس، حتى من أنفسهم، والثانية أنها وجدت بابا للدخل يضاف إلى أصناف المخالفات الأخرى، واللهم لا حسد، فالتقارير التي تكشفها الأخبار، تقول إن الشرطة المرورية تجني الملايين من أخطائنا. ولكن لماذا نصر على الخطأ ونقبل بالدفع؟ فنحن بذلك أنتجنا ثقافة مالية قائمة على أن نمارس الخطأ، شريطة أن نكون قادرين على دفع ضريبته!

الشرطة نفسها تعلن عن فرحها بين الحين والآخر، حينما تقل نسبة أخطائنا في التعاطي مع ثقافة السير بالمركبات في الطريق، من باب نواياها الحسنة، ومن باب مبادئها في خلق مجتمع آمن، تقل فيه الحوادث والخسائر البشرية والمادية.

وفي محاولات الشرطة لكبح جنون ممارسة الخطأ ودفع ثمنه بأريحية، كانت هناك جهود مضادة، للتغلب على هذه العقبة، وفي محاولة لتغيير هذه الثقافة السالبة عند الناس، رفعت القوانين المنظمة للسير، كلفة الخطأ، ومع ذلك استمر الحال على ما هو عليه، ليبدو الأمر أكثر غرابة.

زمان، حينما جاء جهاز الفيديو، شنت ضده حملات لأنه أنتج سلوكا سلبيا، ثم حاول اجتماعيون ومفكرون نشر ثقافة التعاطي مع الموجب في هذه الأداة، بعدها جاء الدش فنشأت على جوانبه ثقافة سالبة، وكانت محاولات لتعديل المسار. وتوالت المسائل، كلما جاء جديد تطلب محاربة ثقافته السالبة. واليوم جاءت قضية البلاك بيري واستخدامه أثناء السياقة، لتصبح المعضلة الأكبر. والأمر أنه لا خطأ في هذا الاختراع التقني الجديد، بل فائدة، ولكن السلوك والتعاطي الثقافي مع هذا الجديد هو المعضلة.

الأغرب، أن غالبية الناس تتعاطى مع محدثات التقنية، وخصوصا تقنية الاتصال، وكأنهم وجدوا ضالتهم في الحياة، وليس وسيلة بسيطة للاتصال والتواصل!