حدود الــ15 من آذار 2011

كسوريين، يصعب علينا البقاء صامتين ونحن نرى وطناً يمزق ليتحول إلى أشباه.. وشعباً يصلى رصاصاً حياً في جهنمٍ لم تسمع بعد باختراعٍ اسمه الغازات المسيلة للدموع. لا يوجد بوعزيزي بين ظهرانينا يشعل حطباً في قلبه على طريقة سبارتاكوس ليطفئ ظمأ السوريين إلى أحلامٍ في ليلٍ دون «زوار فجر». يعاقب السوريون اليوم.

كما عوقبوا قبلاً، بأن سلطت عليهم طيورٌ جارحة تنهش فيهم لأنهم تجرأوا فطلبوا نار بروميثيوس التي كشفت للبشرية منذ قرون ولم تر النور في وطنهم. لكن شعب «التيتان» أثبت أنه كطائر العنقاء الذي يحترق ليبعث من تحت الرماد من جديد، مخيباً ظن أولئك الذين رقصوا طويلاً حول دائرة الموت. قبل أن ينزلوا إلى الشوارع يقرأون صفحة الموتى، علهم يجدون أسماءهم فيها، فيما يهرب خصومهم من نظرات زوجاتهم حينما يعودون إلى منازلهم في المساء بعد أن يكونوا أنهوا مهماتهم على أكمل وجه. لا وخزةً لضمير، بل خوفاً من قراءة أسماء ضحاياهم المحفورة على جبهاتهم والتي قررت مطاردة عيونهم محاولةً طرد النوم منها.

أما من اصبغوا على أنفسهم صفات «زيوس»، فسينتهون يقيناً إلى العدم كما تنبأت مسرحية «محاكمة لوكولوس». ستلاحقهم أرواح ضحاياهم لكي تحاكمهم على تفضلهم بنقل أشجار «المقاومة» إلى بساتين الغوطة، كما تكرم لوكولوس بنقل أشجار الكرز إلى روما، بتكلفةٍ بلغت أطناناً من الدماء والعظام والمليارات التائهة منذ 40 عاماً في صحراء العبث.

شوارع المدن السورية باتت تنبض بالحياة دون نهاية. تلبس شتى أشكال المقاومة الناصعة ولا تكف عن الحركة نحو تاريخٍ جديد يلفظ أشباحاً تكره نفسها. كتبت أحياؤها و«زنقاتها» حكاياتٍ لا تعرف النسيان.. فهو بالنسبة إليها لعنة سوداء. ارتقت أدراجاً مديدة إلى سماءٍ تأبى السكون. ونامت على عشبٍ أحمر مخضبٍ بالأمل، فانتهت إلى صباحاتٍ تقطر ضحكات من ضحوا بحياتهم ليعيش وطنهم. تسألها نقطة اللا عودة عما إذا كانت حزمت أمورها. تناجيها أن تهاجر إلى الأمام لتواجه ميدوزا، حيث هشمت نصاعة الانتفاضة أسطورة النظام الذي لا يقهر.

سموها «جمعة الكرامة» تارةً و«جمعة العزة» تارةً أخرى، حتى وصلوا إلى «جمعة الصمود». صمود في بلد الصمود، وهل على الجميع إذاً ترقب «جمعة التصدي» تليها «جمعة الممانعة» مثلاً؟. هي سخرية الأقدار فعلاً أن يستخدم شباب سوريا وشاباتها في مسيرتهم على درب الآلام من أجل التغيير مصطلحاتٍ من قبيل «العزة» و«الكرامة» و«الصمود»، لطالما لعب عليها من أرسلوا هدايا مبطنة بالبارود الساخن لتغسل وجوههم بالدم. قلنا لهم فيما مضى أن ذلك اليوم آتٍ..

فلم ينصتوا إلى همسات العاقلين، بل شبه لهم أن عزيمة المنطق واهنة وهن الأفكار التي صنعوا منها أقفالاً ليغلقوا عقولهم. وإن قيل في قديم الأزمان ان كل الطرق تؤدي إلى روما، دلت آفاق المنتفضين مجنزرات الفرقة الرابعة إلى مدى مدنهم الرحبة كمصيدةٍ أرادوا لها أن تعري حقيقة من هوت بهم نوازع الثأر نحو خريفٍ أهال السوريون عليه أتربة الوعي بقيامتهم تلك، غير مكترثين بذلك الثوب الرث الذي اسمه الجسد.

هنيئاً للسوريين، فقد بات لهم مطلبان حدوديان ثابتان. لا رجعة عن مطلب الانسحاب إلى حدود الــ4 من حزيران 1967.. ولا عودة إلى حدود ما قبل الـ15 من آذار 2011. آخر الكلام، ليت في بلادي نفطا وفيرا، لكان البعض شحذ وسيلته الإعلامية نصرةً لأحفاد يوسف العظمة أسوةً بأحفاد عمر المختار.