الضجيج يملأ المكان، والكرات النارية الضخمة تنطلق في السماء لتهوي على الرؤوس.. الجرحى يئنون، والجماجم تفرش الأرض كأنها رؤوس دمى مقطوعة تدوسها الخيول.. الموسيقى العسكرية تصدح في المكان، والأمير في كوكبة من جنده يقف متابعا المعركة وسط الموت والنار والهشيم، والسور هو التحدي، هناك من يريد اقتحامه بأي ثمن.
وهناك من يستميت في الدفاع عنه بشتى الطرق، ورجل كالشمس والنور واليقين يقف وسط الأعداء على البرج الشمالي، معرضا صدره لرماحهم ليرفع راية المسلمين معلنا النصر.. إنها معركة فتح القسطنطينية التي دارت حول سورها العظيم، كما شاهدتها في متحف بانوراما 1453 في إسطنبول.
هذا المتحف الذي استغرق بناؤه أربع سنوات وافتتح في عام 2008، هو أحد أبرز المتاحف وأروعها في إسطنبول المكتظة بالآثار والمعالم التاريخية، وهو عمل رائع جدا، تتبدى فيه روعة الفن مع أصالة التراث ودقة التقنية الحديثة. وقد شارك ثمانية من كبار الرسامين الأتراك في رسم لوحاته على مدى سنوات.
ويتم تقديم الشرح الوافي للزوار بمختلف اللغات، عبر أجهزة سمعية متطورة، تشرح الأحداث المطابقة للوحات بطريقة ذكية، وهو إذ يأتي بعد أكثر من خمسة قرون من الفتح، دلالة على أن اهتمامنا بالتاريخ يجب ألا يتوقف، بل يسير ويتجدد مع حركة الحياة المتدفقة دائما.
عرض التاريخ بهذه الطريقة، عبر الأدوات الحقيقية، مثل المدافع التي شاركت في المعركة، مع اللوحات المطابقة للحجم الطبيعي، طريقة ممتازة لإيصاله للناس، أفضل من العرض الجامد المثير للملل في المتاحف العادية.
ومن المتاحف المهمة المشابهة لبانوراما إسطنبول، بانوراما حرب أكتوبر الذي افتتح عام 1983، والذي تثير القطع الحربية الحقيقية واللوحات الضخمة فيه، الإعجاب الشديد لدى كل من زاره أيضا.
طوال تجوالي في بانوراما الفاتح، كانت معارك المسلمين الأولى وغزواتهم تدور في ذهني، وتمنيت لو تقدم للناس بهذه الطريقة الرائعة، غزوة أحد العظيمة، معركة بدر الفاصلة، معركة مؤتة العجيبة، وغيرها.. وغيرها، مما لا نعرف عنه شيئا إلا من خلال الكتب، أو زيارة مواقعها الخالية من أي جهد تعريفي ملائم وحديث، وكل من زار موقعة غزوة أحد مثلا يدرك ذلك.
التاريخ مثل كل شيء في الحياة، بحاجة إلى اهتمام ورعاية، كي يظل متمتعا بالعافية، مشعا بالجمال، ضاجا بالحيوية، وهذه هي مسؤوليتنا تجاهه، وتجاه أنفسنا وأبنائنا.
وفي شرقنا العربي والإسلامي، هناك الكثير الكثير مما يحتاج إلى إعادة النظر فيه، لتقديمه في أثواب جديدة، تليق بحداثتنا وبكل هذا التطور الذي يحيط بنا.