أمام المباني القديمة، كثيراً ما نقف حائرين أمام أمرين، تعلقنا النفسي بالبناء وما يعنيه لنا من جهة، وعدم ملاءمته جمالياً للمرحلة الزمنية التي نعيشها من جهة أخرى، خاصة عندما لا يكون البناء متميزاً أو ذا قيمة عمرانية وجمالية، وغالباً ما تكون المقارنة لصالح الأمر الثاني، والتضحية بالمشاعر في سبيل استثمار أفضل للنقود، ويكاد معظم الناس متفقين على ذلك، فما أن تحضر تلك الحيرة، ويتفوه المرء بحنينه إلى ذلك البيت حتى يقال له؛ إنه بيت قديم وسيئ، فلم المحافظة عليه؟

كنت أظن أن نظرة المعمارين منسجمة مع ذلك أيضاً، فلا يستحق البقاء والمحافظة عليه، إلا البناء المتميز الجميل، ذي الهوية الواضحة، أما ما عدا ذلك فمن الأفضل إزالته لبناء شيء أجمل، حتى كان ذلك اليوم الذي دخلت فيه في حوار حول ذلك مع أحد المهندسين العرب المتميزين، كان الحديث يدور حول منطقة الراشدية تحديداً، والتي يتمنى الكثيرون المحافظة عليها، لما تشكله من قيمة معمارية وتاريخية واجتماعية في إمارة دبي، كونها باكورة المناطق الممتدة في الصحراء، وبداية مشروع تعميري طموح بدأه الشيخ راشد بن سعيد رحمه الله، ولتميزها بتكامل مرافقها ومنشآتها، بحيث يمكننا اعتبارها مدينة صغيرة.

قلت للمهندس، يتمنى المرء عمل شيء لاستعادة الراشدية لبريقها، ولكن ما أظنه أحد العوائق هو أن النمط العمراني السائد فيها لا يتميز بأي تفرد أو جمال. اعترض على كلامي قائلاً؛ على العكس مما تقولين فالراشدية بالذات يمكننا جعلها آية في الجمال المعماري، دهشت وقلت؛ كيف ومبانيها عادية ؟ بل إن كثيراً منها يبدو سيئاً ؟ ولا يعدو كونه جدراناً إسمنتية جامدة ؟ قال؛ إن روح المكان هي المهمة هنا. روح المكان؟ وهل تقيمون وزناً لذلك؟ أجابني؛ كل الوزن، تهمنا المساحات، المسافات، الحي ككتلة واحدة، ما كان يهيئه من أنشطة، وما يوفره من ضوء وظلال، وما يمنحه من هدوء وسكينة، ويعنينا ترميم كل ما يحويه من مبان مختلفة ومتباينة المستوى، لإبراز الروح التي شكلت ذلك المشهد كاملاً في يوم ما ومنحته تميزه واختلافه.

ذهب فكري إلى أكثر من مكان في دبي، كالحمرية وفريج المرر وشعبية جميرا، وغيرها من المناطق التي لا تزال مفعمة بروحها الجميلة الوادعة المنسكبة على نخيلها ودروبها وأفنيتها بانتظار من يعلق لها من جديد قناديل الفرح على الأبواب، ويعيد صيانة أحيائها وإعادتها كما كانت، مع لمسات غير مضرة لماضيها، والاستفادة منها بشكلٍ راقٍ ومربح.

إن وجود نماذج معمارية لمختلف المراحل التي مرت بها بلادنا أمرٌ مهم، وتاريخ العمارة هنا لم يتوقف عند بيوت الجص والحصى، وما تبقى من أحياء ومبان شاهداً على المرحلة الممتدة من ذلك الوقت إلى يومنا يبدو ضرورياً لفهم مسيرة الحياة على هذه الأرض بشكل أوضح. كما أن المحافظة على المدن المتكاملة التي بنيناها وعدم تجاوزها وهجرها سريعاً إلى مناطق أحدث مهم أيضاً، وقليل من الوعي بالجمال الساكن في تلك الأماكن قد يعيدنا إلى أحضانها من جديد.