خريطة هوية

قضايا ملحة كثيرة تحفل بها أجندة العمل الوطني في المستقبل السوري المنظور، بعد سقوط النظام.

إلا أن سلم الأولويات يقتضي منا، وفور محاسبة القوامين على "عرس الدم"، وصانعي هذه المقتلة التاريخية، أن نعمل على صوغ منهج تعاط سليم، على الصعيد الاجتماعي والثقافي.. فالسياسي العام، جوهره الإدراك العميق لماهية الذات الوطنية، المنطوية في ملامح هويتها، على بنية مركبة غنية، حاملها، بل حضنها، العروبة.. وفضاؤها الإنسانية.

لا مناص من أن نعترف، ونحن في طور التجهيز لإعادة تصويب وإنتاج المناخات والمفاهيم الفكرية والسياسية، أن سوريا، في طيف مكونها، الإثني والديني، تتمايز عن غيرها. وحين يصبح هذا الاعتراف واقعاً ملموساً، نؤسس فعلياً لشرعة وئام مجتمعي، تنبذ الإقصاء أو التهميش.

هكذا، وبالمران العقلي المستند إلى هذه الرؤية، وبموازاة الممارسة السليمة، يغدو بمقدورنا تكوين مفاهيم عمل وطني تراعي حاجات الأفرقاء الشركاء.. وتصون عناصرهم "الهوياتية".

وذاك بلا اتجار وتبجح شعاراتي، كما بقي يفعل النظام الحاكم، متعمداً استثمار حقائق تنوع البصمة السوسيولوجية المجتمعية، عند اللزوم، بوجهة تخدم مصالحه.

طالما مثّلت سوريا درة الشرق التي نشرت في عالمنا بريق قيم، روحية وجمالية، لا يخفت. والثابت هنا، أن موزاييكها الاجتماعي الفريد، الذي أذكت خصبه وبهاءه الحضارة الإسلامية، لعب كبير الدور في الخصوص.

وغني عن القول، إن لتلك الحقيقة تفاصيل مهمة، نستطيع عندما نعي كنهها، تقديم تعاريف جديدة للذات الوطنية، غير قاصرة أو مبتورة، لا يلجأ أيُنا معها، إلى أحضان الطائفة أو الفئة، للتخندق والتمترس، عند أول امتحان أو مفترق طرق.

أظننا بهذا وحده نحيك ثوب انسجام السوري مع جوانب هويته المركبة، ليكون لحظتذاك، وأولاً وأخيراً، سورياً فقط، يُعنى بنبذ نزعات الانفصال أو الضغينة، مهما كانت تلونات ذاته وأشكالها الثقافية والعرقية (عربي أو كردي أو شركسي، وأيضا: مسيحي أو مسلم " سني، علوي، درزي، إسماعيلي.."...).

إننا ملزمون بالاشتغال على المسألة تلك، دون تلكؤ، لأنها تعبّد في مآلاتها، طرق استقرار المنطقة بمجملها. فسوريا، وبحكم التاريخ والماهية والجغرافية، بلد ناظم لسمفونية التعايش والسلام في الشرق الأوسط. نعم، نحن "محكومون بالعمل، قبل الأمل".

 وعليه، لا بد أن تكون مدارسنا وأسرنا وشوارعنا، حقول خصب تزهو بزروع نسغُها قبول الآخر والألفة والتعايش. فلا نريد أن يأتي يوم (بعد عقدين مثلاً)، يستبق فيه السوري تعريف ذاته وانتمائه، بعبارات تحدد ديانته أو مذهبه أو عرقه.

لا أجدنا بعيدين أو غرباء عن النجاح في صوغ خريطة لهويتنا، بفسيفسائها الأخاذة، المضمومة في باقة تستمد سيماءها من روح الوطن.

فالإيمان كبير بأبناء بجدتنا الغُر، الذين لم يلن عزمهم يوماً، رغم الملمات والويلات، على التمسك بالُّلحمة الحق، المفضية إلى نبذ مفهوم الهوية الطائفية والفئوية، التي تفرز، أصلاً، التطرف والحقد.. فالتقوقع في فضاءات الذات.

الأكثر مشاركة