أَصدرته بيان نويهض الحوت قبل عشر سنوات، بعد أَن أمضت عشرين عاما في إنجازه، فجاءَ الكتاب الأهم والأوفى في موضوعه، "صبرا وشاتيلا.. أيلول 1982". لا تستقيم استعادة الجائحة المهولة، بفظاعاتِها التي ذاعت وغير التي ذاعت، في ذكراها كل عام، من دون إِطلالةٍ على هذا الكتاب، وهو المرجع الغنيُّ بتوثيقه وعلميته ومروياته وخرائطه وصوره، وبأَسماء 1390 شهيدا ومفقودا ومخطوفا ممن راحوا في تلك المقتلة، التي لم تصدر منظمة التحرير.
ولا الدولة اللبنانية، لائحة اتهام رسمية بصدد قتل مئات الفلسطينيين واللبنانيين فيها، طوال إحدى وثلاثين سنة، اكتملت الأسبوع الجاري، على الجريمة. ومعلومٌ أَنَّ المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد لشعبها، وفي مقدمته اللاجئون منه، ويُفترض أَنَّ أَي دولةٍ معنيةٌ برعاياها، مقتولين أَو غير مقتولين. وكتاب بيان نويهض الحوت (802 صفحة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت) يوفر المادة الأًهم للبناء عليها في توثيق الجريمة المعلومة، وتعيين المتهمين الأبرز فيها، وفي تسمية الضحايا، أو من أَمكن عدُّهم.
وقد بذلت المؤلفة مجهوداً استثنائياً في عملها هذا، وفي تقصّيها شهاداتٍ حيةً وتفاصيل ميدانية، عما جرى في نحو ثلاثة أيام في المخيمين المنكوبين. كما أَنَّ منجزاً طيباً بادر إِليه بشأن تلك الوقائع، الباقية عاراً عربياً في إِحدى وجوهها، الفرنسي أَلن مينارغ في كتابه "أَسرار الحرب اللبنانية"، وقد جهد في تعيين أَطراف الجريمة.
أَنْ نتذكَّر مذبحة صبرا وشاتيلا، لا يعني الاكتفاءَ بترحمٍ على ضحاياها (كم عددهم بالضبط؟)، بل الجهر بوجوب ملاحقةِ الأَطراف والأَفراد والجهات التي خططت ونفذت وهربت. ومن موبقاتٍ غير طريفةٍ أَن "تقرير جرمانوس" الذي أَصدرته لجنةٌ لبنانيةٌ برئاسة مدع عسكري عام، بعد 11 يوما على المقتلة، كان معنياً بتبرئة "القوات اللبنانية" (الكتائب) من أَيِّ مسؤولية، مفقودٌ من الملفات الرسمية اللبنانية.
ولا مدعاة، هنا، للتذكير بأَنَّ تقرير لجنة كاهان الإسرائيلية كان أَكثر أَهمية، وهذا ليس ثناءً على وثيقة لطرف أَساسي في الجريمة التي أَحال التقرير إِلى "مسؤولية غير مباشرة" عنها لوزير الحرب آنذاك، إرييل شارون. والمؤكد البديهي أَنَّ المذبحة كانت تعاوناً كتائبياً إِسرائيلياً، وإِنْ كذب مناحيم بيغن في زعمِه أَنه لا علاقة للدولة العبرية بها، فأَغيارٌ قتلوا أَغياراً فيها، بحسبه.
يحسنُ أَن نرمي خراريف تينك اللجنتين، والإهمال الفلسطيني الرسمي، وراءَنا، ونقرأ كتاباً فريداً، أَنجزته باحثة ومناضلة فلسطينية، لمؤلفاتها السابقة مكانتها في البحث التاريخي الفلسطيني، وجاءَ بادرةً حقوقيةً وإِنسانيةً وتاريخيةً وثقافيةً ووطنيةً.
طالعنا فيه عن لبنانيين وبضعة مصريين وجزائريين وباكستانيين قضوا في المذبحة، وعن خمسة عمال بنغاليين قتلهم المجرمون في أَسرّتهم، وعن اغتصاب شابات، وقتل طفل بتقطيعه من فوق رجليه نصفين. وعن اللبنانيتين، زينب المقداد التي نحر القتلة أبناءها السبعة، ووفاء حمود التي نحروا أَبناءَها الأربعة... إِذ نتذكّر "صبرا وشاتيلا"، يحوز الاحتفاء، إِذن، بهذا الكتاب بالغ الأَهمية عنها.