الكذب والصدق رديفان

الأثر البالغ الذي يصنعه الإعلام، قد لا يخفى علينا حجمه، وإن كنا عربياً لم نستطع يوماً الإمساك بأدنى آليات اشتغاله، إلا أن هذا الاشتغال بات الآن متفلتاً من العالم بأسره، حتى من يد أولئك الذين اخترعوا هذا الوحش «الفرنكشتاين» الذي فقد صانعه السيطرة عليه.

التسارع الكبير في ثورة الوسائل لم يثمر دفقاً هائلاً فقط، وإنما أنتج ترابطات في آلية الاشتغال تتطور بتسارع هي أيضاً، ولكن وحدها دون أن يمتلك أحد القدرة على كبح جماحها، ولا التحكم بأثرها.

الصورة الكاذبة، ليست إلا مثال ذرة في هذه الآلية، انتقلت عدوى السبق من خلالها، من وسائل غير محكومة بالموضوعية ولا تعبأ لأمر المصداقية، مثل شبكات التواصل الاجتماعي، إلى وسائل كانت تتفاخر على الأقل بهذه الأخلاقيات.

فضح الصورة الكاذبة، أيضاً أصبح سبقاً، وهو كذلك شبيه بنقيضه، في أنه غير محكوم بأخلاقيات الموضوعية والصدقية، لأنه يصب في آلية الاشتغال ذاتها التي تؤجج في النهاية أثراً بليغاً من الفتنة، عن تقصد أو دونه.

الكذب وفضحه، والحقيقة وتكذيبها، كلها تصبح مرادفات تحت راية واحدة تعمل على استدامة وزيادة صراع بين معسكرات يؤجج في غضبها معرفة ما يحشده الآخر في عدائها، ليس على مستوى السلاح، وإنما على مستوى التفكير والتعبئة النفسية وتعظيم الكراهية.

الصورة والكلمة الآن في تسابق إعلامي محموم وتفاخر إبداعي هستيري، لترويج صناعة الموت والقتل. وربما كان من المناسب قبلاً أن نقول إن الموت هو من يوزع الصحف، حين كان عدد القتلى على الصفحات الأولى وجرائد الحوادث هو من يحظى بتوزيع أكبر على إشارات المرور، ولكن الآن أصبح الإعلام هو من يوزع الموت في الطرقات. أما في كارثة أعظم لثمار هذه الثورة الإعلامية غير المحكومة قيمياً..

فالجندي في أرض المعركة الذي يحمل السلاح ويقتل، قد يعود من خندقه حاملاً في صدره أمراض ضمير معذب بما اقترفه بحق الانسانية، أما الوحش المختبئ خلف نعومة وسيلة الإعلام، فلن يكون عرضة لأي ألم لا في الضمير ولا في بحة صوته، لأن الدماء لم تلطخ ربطة عنقه الأنيقة.